كتبتُ فى السنوات الأخيرة ثلاثَ مقالاتٍ جمعَها عنوان: «هيكل.. وقفة مع الأستاذ».. وهنا الوقفة الرابعة.
( 1 )
هذه سطورٌ من جيلٍ آخر.. لا نجاحات «الأستاذ» كانت ضِدّنا، ولا وثائقهُ كانت عنّا، ولا انتصاراته كانتْ علينَا. ولأننّى واحدٌ من ذلك الجيل الذى يرى فى الأستاذ هيكل ربمّا أكثر مما يراه هو فى نفسه، ويضعه فى مكانةٍ، ربمّا لم يبذُل هو الجهد الذى يضعه فيها، بقدرِ ما بذلنا نحن الحب لنبقيه عليها.
هذه سطورٌ من جيلٍ يضعُ الحقَّ فوقَ الموهبة.. والوطنَ فوقَ الشُّهرة.
( 2 )
الفرضية العلمية التى أذهبُ إليها راضيًا مطمئنًا هى أن الأستاذ هيكل يكره حرب أكتوبر.. ويكره أبطال ونجوم حرب أكتوبر. ولقد استخدمتُ تعبير «الكراهية» هنا عن عمد.. وكان بإمكانى أن أقول: «إن الأستاذ هيكل ينتقد حرب أكتوبر»، أو «إن الأستاذ هيكل يهاجم حرب أكتوبر».. لكننى فضّلتُ استخدام تعبير «الكراهية».. لأن الأستاذ هيكل لا يحمِل رؤية نقدية موضوعية ووطنية ضدّ حرب أكتوبر.. بل يحمِل مواقفَ نفسية.. وانكساراتٍ شخصية.. ذلك أنه- هو شخصيًا- قد هُزِم فى حرب أكتوبر.
وعلى ذلك فإن الأستاذ هيكل إذ يهاجم انتصار أكتوبر إنما يهاجمه لأنه انتصارٌ عليه.. وهزيمةٌ له. كان «الأستاذ» يتحدّث طوال الوقت عن استحالة هزيمة إسرائيل، واستحالة عبور خط بارليف، واستحالة تحرير الضفة الشرقية للقناة. كانت كل تحليلات «الأستاذ» تقوم على «المستحيلات» لا «الممكنات».. والفشل لا النجاح.. والاحتلال لا الانتصار.
( 3 )
قال لى الفريق سعد الدين الشاذلى: لم أكُن أثق فى هيكل، وأَمَرْتُ بعدم دخوله إلى الجبهة.. وقال كثيرون من قادة الجيش: إن هيكل كان يقوم بدورٍ إحباطى مؤلم.. وكان يقود عملية تيئيس واسعة.. باسم التحليل السياسى.
سيقول «المتنطِّعون»: إن «الأستاذ» كان يريد أن تصل لإسرائيل رسالة مفادها أننا غير قادرين على الحرب.. بينما نحن نستعد للحرب، وأن مقالات «الأستاذ» كانتْ جزءًا من الخداع الاستراتيجى. وهو قولٌ لا يستحق الوقوف أمامه.. لأن قادة الحرب أنفسهم كانوا ضد فكر الأستاذ قبل وبعد الحرب.. ولا توجد شهادة واحدة تقول بهذا التبرير الركيك.. الذى يقوم على ادعاء الحكمة بأثرٍ رجعى.
( 4 )
لم يقبل الأستاذ بهزيمته- سياسيًا وفكريًا- فى حرب أكتوبر 1973.. فقرر أن يقف فى صف الفكر السياسى الإسرائيلى ويحوّل النصر إلى هزيمة.. والنجاح الأسطورى إلى فشلٍ وأفول!
تبدو الكثير من كتابات الأستاذ هيكل عن حرب أكتوبر.. وكأنها مترجمة من مراكز البحث الإسرائيلية أو الأمريكية.. أو قصاصات من صحف اليمين الأوروبى.
ويتحدث الأستاذ فى كل الأحوال بـ«قلبٍ بارد» وكأن هذه الحرب لا تخصُّه ولا تعنيه.. فالأستاذ يتحدث عن حرب أكتوبر بنفس الحياد و«الخمول الوطنى» الذى يتحدث به عن الحرب الكورية!
( 5 )
عمِل الأستاذ هيكل بجدية وإخلاص فى سبيل القضاء على الطابع الأسطورى لحرب أكتوبر.. ثم للقضاء على قادتها من أساطين العسكرية المصرية.. فجاء على الرئيس أنور السادات فراحَ يكتب ضد زعيم تاريخى كبير بوزن السادات.. محاولاً تجريده من السياسة والسلاح.. ثم الهبوط الصادم.. إلى الإساءة الشخصية والعائلية لقائد الانتصار.
بعد السادات.. جاء الدور على المشير أحمد إسماعيل والفريق الشاذلى.. فأَهْمَلَ ذكرهمَا إلا فيما يتصلُّ بحربِه ضد الحرب.. ثم وَاصَلَ إلى القوات الجوية فأهالَ التراب على دور قائدها الفريق طيار حسنى مبارك.. ثم أهال التراب على أداء القوات الجوية بكاملها.. فأنكرَ أى دورٍ مهم لها فى الحرب، وقال «الأستاذ»: «الضربة الجوية لم تكن أساسية.. وكانت غير ضرورية، وعدد الطائرات التى خرجت فى الضربة (6) طائرات فقط»!
ثم وَاصَلَ «الأستاذ» حتى وَصَلَ إلى جهاز المخابرات العامة.. فانقضّ عليه نافيًا قدراته ونجاحاته المذهلة.. ومشككًا فى أبطاله من «جمعة الشوان» إلى «رأفت الهجان».
إنها خطة ممنهجة.. مَضَى عليها الأستاذ- دون خطأ واحد- تقوم على تدمير مكانة حرب أكتوبر فى العقل السياسى المصرى، وإخراج أبطالها من الوجدان العاطفى للمصريين.. وترسيخ الرواية الإسرائيلية بهزيمة مصر وانتصار إسرائيل.. تحت حجة واهية.. نقد أنور السادات.
( 6 )
يستخدم الأستاذ هيكل مقولات من نوع «انتصار السلاح وهزيمة السياسة» أو «أن السياسة لم تكن بمستوى القتال».. وهى مقولات هائمة.. كل مهمتِها ودورِها هو «التغطيَة المعرفيّة» على عملية تكسير الانتصار. لكن الأستاذ قد خرج على ذلك.. وتَجَاسَرَ فى بعض الأوقات على القول بالهزيمة، دون حتى الإشارة إلى هذه المقولات البلاغية الروائية.
ففى ذكرى حرب أكتوبر 2009 دعا الأستاذ وزير الخارجية البريطانى الأسبق اللورد ديفيد أوين. قال أوين، وهو يجلس إلى جوار «الأستاذ» ضيفًا على مؤسسة هيكل: «إن إسرائيل هَزَمتْ مصر هزيمةً منكرة فى حرب أكتوبر 1973، وإن الدبابات الإسرائيلية كانت على أبواب القاهرة، ويسجِّل التاريخ هزيمة مصر فى هذه الحرب».
لا يمثل ديفيد أوين أى قيمة علمية فى علوم الحرب الاستراتيجية، وهو طبيب نفسى فاشل، كل قوته أنه من أبرز رجال إسرائيل فى بريطانيا.. وكل إنتاجِه قصص مسليّة عن أمراض الرؤساء.. يكتبها لأجل جذب انتباه الصحافة الصفراء.
قام الأستاذ هيكل بتقديم ضيفه بفخرٍ كبير باعتباره «أصغر وزير خارجية». وقتها كتبتُ مقالاً قلتُ فيه: «والآن نضيف إلى سيرته أنه أتفه وزير خارجية».
( 7 )
هكذا تحدث «الأستاذ».. وهكذا استضاف «الأستاذ».. وهكذا تحدث «ضيف الأستاذ».. وهكذا صمت «الأستاذ» موافقًا على أن التاريخ يسجِّل هزيمة مصر فى هذه الحرب! يكره الأستاذ هيكل حرب أكتوبر، ويكره الذين يقومون بتمجيدها.. ويضىء «الأستاذ» على أعداء حرب أكتوبر.. ويحتفى بالذين يقومون بتدميرها. فى حرب أكتوبر 1973 انتصر المصريون وانهزم «الأستاذ».
* الأسبوع القادم بمشيئة الله: «لماذا يكره هيكل المشير أبوغزالة؟.. وقفة خامسة مع الأستاذ».
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.
نقلاً عن "المصري اليوم"