أحمد المسلماني
فى أفغانستان.. سقطت المملكة، ثم سقطت الدولة. مات الملك ولم يعش الملك.. وتعثّرت البلاد فى فوضى الجهاد.. وجهاد الفوضى.. وخرجت المملكة الجميلة، التى لطالما تألّقت.. جمالاً وقوةً، من حركة التاريخ.
(1)
إن من يتأمّل المشاهِد التى تعود إلى العصر الملكى الأفغانى.. سوف يندهش.. من هيْبة الملك وروْعة المملكة. سيجد المُشاهد ما لم يعُد يراه.. وما لا يُحتمِل أن يراه قريباً.. دولة قوية، وجيشاً قوياً.. ومجتمعاً متحضّراً ومتماسكاً.. اقتصاداً يتطوّر بلا توقّف.. ومشروعاً كاملاً للحداثة والنهضة يمضِى نحو المستقبل راسخاً وواثقاً.
لم يعد هناك شىء من ذلك.. لم تعد محطات التليفزيون تبث صور الملك والحكومة فى منصة العرض العسكرى، ولم يعد الإعلام يتحدث عن منجزات السلطة فى أفغانستان.. من تأسيس مدارس وجامعات إلى بناء جسور ومطارات.
ما تحفل به المحطات كل يوم «موجز أنباء الدماء».. وعرض أخبار الصراع والصدام.. توارت عناوين التنمية لصالح عناوين طالبان.. واختفت أخبار «النهضة» لصالح أخبار «الحركة».
(2)
تتعثر أفغانستان فى «أيديولوجيا الموت» منذ عقود.. وبينما تحاول الحكومة الحالية أن تبذل جهداً كبيراً من أجل استعادة الدولة.. لا تريد حركة طالبان أن تغادر المشهد حتى لو غادر الوطن!
سيطرت أنباء الملا عمر لسنوات، ثم جاءت أنباء الأمير الجديد لحركة طالبان الملاّ أختر منصور.. والآن تسود أنباء الأمير الثالث مولوى هيبة الله.
رَحَلَ الأمير الثانى الملا أختر منصور فى سيارة أجرة استقلها متخفياً فى زيارة غامضة إلى إيران.. وفى طريق العودة قضتْ عليه طائرة بدون طيار.
لم يكن «الأمير الثانى» موضِع إجماعٍ داخل الحركة.. وقد جاء «الأمير الثالث» أقلَّ توافقاً من «الأمير الثانى».. ذلك أن عدداً كبيراً من قادة طالبان رفضوا تولّى مولوى هيبة الله الإمارة.. وكان من بين الرافضين لمبايعة «الأمير الثالث» أبناء الملا عمر «الأمير الأول».
ولايزال كثيرون غير مقتنعين بولاية الأمير الثالث.. ويرونه «كادراً نظرياً» لم يحمل السلاح مثل الأميرين الأول والثانى.. ومن الصعب أن يتولى قاضٍ شرعى لم يحمل السلاح قيادة حركة عسكرية.. تحارب الكثير من الخصوم.
(3)
تبدو حكاية أفغانستان.. حكاية بلا نهاية. هى مسلسل مكسيكى.. تتولد الحلقة تلو الحلقة.. من الفراغ، وتمضى إلى الفراغ. ولا يشعر الأفغان بأملٍ كبيرٍ فى إنقاذ بلادهم من ملحمة الدماء التى تتوالى فصولها بلا انقطاع. ويتذكرون -باحترام وتقدير بالغ- عهد الملك القوى محمد ظاهر شاه.. ذلك الملك الوطنى البارع.. الذى تجاوز الحرب العالمية الثانية محافظاً على قوة الدولة.. بل وقائداً لتحديثها وقوتها.
أسس الملك ظاهر شاه.. أول جامعة.. كما أسس مطار كابول ومطار قندهار.. وحقق درجة عالية من التنمية الاقتصادية والسياسية.
من بعد الملك انتهت السنوات الرائعة.. وبدأت العقود العِجاف.. من فوضى القبائل إلى فوضى الجهاد.. شيوعيين ومتطرفين وإرهابيين.. تشاجروا على وراثة المملكة.. ولا يزالون.
لا يريد أحدٌ أن يسلّم للآخر.. وحين اندلع الجهاد الأفغانى ضدّ السوفييت.. صُدِم المسلمون بهوْلِ الحرب الأهلية بين المجاهدين.. وقتال الأحزاب الإسلامية بعضها الآخر.. وكلٌّ يرفع راية الإسلام.. منفرداً.. ومتهماً الآخرين بالعمل ضدّها. ولقد أسهبتُ فى كتابى «الجهاد ضد الجهاد» فى وصف مأساة «المجاهدين ضد المجاهدين».
(4)
كم كان الحُكم الملكى فى أفغانستان.. وطنياً وحداثياً ورائعاً.. وكم هو بائس «عصر الجماعات».. التى أرادتْ الحصول على كلّ شىء.. فهدمتْ كل شىء.
سيذكر التاريخ بكل الازدراء عصر طالبان.. وسيذكر بكل الاحترام عصر الملك ظاهر شاه.. فمِن بعد الملِك.. لا يعدو تاريخ أفغانستان إلا أن يكون سجِلاً للوفيّات.. أو هو فى قولةٍ واحدةٍ: موجز تاريخ الحزن!
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.