توقيت القاهرة المحلي 17:17:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مساهمة نيتشه الشابّ في تأسيس اللاعقلانيّة الحديثة

  مصر اليوم -

مساهمة نيتشه الشابّ في تأسيس اللاعقلانيّة الحديثة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

تعاقب، في القرن التاسع عشر، فلاسفة ومفكّرون أوروبيّون على تأويل التراجيديا الإغريقيّة، التي يعود تناولها المبكر إلى أرسطو، لكنّ الحدث الكبير سجّله عام 1872، حين نشر فريدريك نيتشه، وكان في الثامنة والعشرين، كتابه الأوّل «ولادة التراجيديا». ولئن أثار عمله هذا ضجيجاً وغباراً كثيريْن، فالمؤكّد أنّه أضعفَ موقع صاحبه وحظوظه في التعليم الجامعيّ، تبعاً لمجافاته إجماعات فكريّة كانت سائدة، لا سيّما الموقف من قدامى الإغريق وتقييمهم.
ورغم أنّ نيتشه حين أصدر طبعة ثانية من الكتاب، في 1886، كتب مقدّمة سمّاها «محاولة في النقد الذاتيّ»، مبدياً تحفّظاته على الصيغة الأصليّة، فقد أخذ على الكتاب، بين ما أخذه، أنّه «مستحيل»، و«ثقيل»، و«مُحرج»، و«سيّئ الكتابة»، و«عاطفيّ»، وفاقد لـ«النظافة المنطقيّة». لكنّ هذا كلّه لا يعني أنّ نيتشه تخلّى عن روحيّة الكتاب، وعن نبرته.
كائناً ما كان الحال، رأى كثيرون من دارسيه في «ولادة التراجيديا» واحداً من الأعمال المؤسّسة للنزعة اللاعقلانيّة الحديثة في التقليد الثقافيّ الغربيّ. فما الفكرة المحوريّة للمرجع الفلسفيّ – الفيلولوجيّ هذا؟
لقد اعتقد نيتشه أنّ التراجيديا الإغريقيّة وازنت بين أبولو وتقليده وديونيسوس وتقليده، بل كانت تركيباً (synthesis) لهما يتيح للمشاهد أن يختبر الشرط الإنسانيّ بجانبيه، وبالأحرى بكلّيّته.
فديونيسوس الذي ارتبط عند قدامى الإغريق بالخمر، رمز إلى معانٍ ومواسم كثيرة في عدادها الخصب والجنون الطقسيّ والمسرح والسكْر والانتشاء، فهو الطاقة الإنسانيّة الشابّة والحارّة والمتهوّرة، وهو الطبيعة في شكلها الغريزيّ والخام، بفعله يقترب البشر من الأرضيّ والحسّيّ عبر المتعة والرقص، وخصوصاً عبر الموسيقى.
أمّا أبولو فإله الشفاء والطبّ والشِعر، وهو، إذ ينطوي على «مفارقة تشبه الحلم»، يعبّر عن جماليّات الشكل وصناعتها، وعن الأوهام الرائعة. وأبولو يتحمّل الألم، ويسيطر عليه، وفيه يقيم الفكر والمنطق والعقل الذي يحسب الأمور، ويدفع إلى الفَردَنة والتأمّل بالانفصال عن العالم المحيط.
فالديونيسيّة إذن فوضى وموسيقى ومحو للحدود، فيما الأبولونيّة حدود ونظام ونحت وفنون تشكيليّة وبصريّة.
والطاقة الديونيسيّة انطوت، عند نيتشه، على شكل إنسانيّ بربريّ تعود أصوله إلى الونداليّين (Vandals) بوحشيّتهم ونزعتهم التدميريّة، وإلى باقي الشعوب الجرمانيّة القديمة، لكنّها حين انتقلت إلى أثينا ضبطَ الأثينيّون قوّتها الجامحة بقوّة الأبولونيّة ممثّلةً بالملحمة الهوميريّة. وحين جاءت التراجيديا ضمّت الشِقّين العقلانيّ واللاعقلانيّ معاً، فتكاملا وتجاورَ المبدأ الجماليّ الذي يسرّ الحواسّ والمبدأ السامي (sublime) الذي يطول تعقّلنا للعالم. فالإشكال، وفق الفيلسوف الألمانيّ، هو كيف يُختَبر الجانب الديونيسيّ من الحياة دون تدمير القيم الأبولونيّة. ذاك أنّ من غير الصحّيّ ولا المُجدي عيش الفرد أو الجماعة تبعاً لقيم إحدى المنظومتين، من غير الأخرى، فأبولو وديونيسوس، وإن تصارعا، هما أخوان كلّ منهما يحمل في ذاته بذور الثاني، وهما ليسا مجرّد تعبيرين عن النفس الإنسانيّة، بل أيضاً طاقتان فنيّتان انبعثتا من قلب الطبيعة.
لكنْ إذا كان أبولو هو التمثيل (representation)، بلغة شوبنهاور الذي أثّر في نيتشه، فإنّ ديونيسوس هو الإرادة، وبه خصوصاً يكون الردّ على العدميّة والتشاؤم لعالم عديم المعنى. هكذا غدت التراجيديا الإغريقيّة، والفنّ تالياً، يقدّمان التبرير الجماليّ للحياة، ويوفّران أساساً للتفكير بأنّها تستحقّ أن تُعاش رغم أهوالها وآلامها. والفنّ لم يوجد أصلاً إلاّ لإنقاذ أنفسنا من الحقيقة والواقع، وتجنّب الموت تحت وطأتهما.
لكنّ الخنجر الذي طعن التراجيديا الإغريقيّة، حسب نيتشه، كان خنجر العقلانيّة؛ فسقراط، عبر الحوارات الأفلاطونيّة، أكّد على العقل، ورأى الأشياء من خلاله إلى الحدّ الذي عطّل الأسطورة، وأطفأ فعلها، مستنزفاً قابليّة البشر، جماعات وأفراداً، لعيش الفنّ والمساهمة فيه.
وكان ليوريبيدِس، أحد أضلاع ثالوث الأدب التراجيديّ الكبير، إلى جانب أسخيليوس وسوفوكليس، دوره في هذه المذبحة؛ فقد كان صديقاً لسقراط، اعتنق آراءه، ومتأثّراً به كتب مسرحيّاته، وقيل (وإن كانت الرواية غير مؤكّدة) إنّه اختار لنفسه منفى طوعيّاً بعد محاكمة صديقه الكبير. فهو، والحال هذه، دمّر التوازن من داخل التراجيديا؛ إذ أضاف المنطق والعقل، واستغنى عن المُكوّن الديونيسيّ، كما عقلن الأساطير، وهمّش الكورس وغناءه، علماً بأنّ كورس التراجيديا هو ما يُسعد في الحياة؛ إذ يعبّر عن العواطف الجيّاشة والمواقف القويّة. وبعد كلّ حساب، تبقى الموسيقى، عند نيتشه، أعمق من اللغة، وهي إذ تستقلّ عن الفكر، يبقى ارتباطها بالديونيسيّ أشبه بارتباط الكائن الإنسانيّ بوحدته مع الطبيعة.
هكذا سمّم «الإنسانُ السقراطيّ» الحضارةَ والثقافة والأشكال الفنّيّة بخصائصها غير العقلانيّة، ومع يوريبيدِس بدأ ينهار كلّ شيء، لتصعد العقلانيّة الغربيّة التي أعدمت الأساطير، واندفعت وراء الأهداف والغايات. ذاك أنّ المجتمع الغربيّ إنّما ولد تبعاً لنظرة أبولونيّة للعالم، نظرةٍ تتفرّع عن سقراط؛ لتستأنف مسيرتها مع التنوير والمنهج العلميّ.
فكان أحد أفعال المسيحيّة خنقها الاحتفال الوثنيّ عبر تحويله إلى كرنفال، وقمع المناسبات الطقسيّة القديمة للوثنيّين ولأوائل المسيحيّين، رغم أنّ تلك الطقوس عاودت الظهور في أوروبا القروسطيّة عبر احتفالات تستعرض الديونيسيّ في الطبيعة الإنسانيّة، تمسّكاً منها بأنّها تحمل لنا الشفاء من العالم والواقع.
ورغم أنّ نيتشه عثر على أمله الجديد في ألمانيا القرن التاسع عشر، خصوصاً في دراما ريتشارد فاغنر الموسيقيّة؛ فقد مثّلت له محاولة لبعث تلك الموازنة، في الفنّ الحديث، بين الأبولونيّ والديونيسيّ، ففاغنر هو من يستخدم الموسيقى بطريقة مشابهة لاستخدام الكورس الإغريقيّ لها، معاوداً اكتشاف طاقة الموسيقى على استنطاق القوى الأوليّة والحيويّة في الحياة. هكذا كرّس النصف الثاني من الكتاب للاحتفال بموسيقاه وأعماله الأوبراليّة، قبل أن يغيّر عنوان كتابه، من ضمن عمليّة التمايز عن صديقه وأستاذه فاغنر، من «ولادة التراجيديا من روحية الموسيقى» إلى «ولادة التراجيديا أو: الهيلّينيّة والتشاؤم».
وكان بين الكثيرين الذين تأثّروا بنيتشه أوزفالد شبنغلر، الذي نعى انحسار الغرب، وصعود العقلانيّة التي أعدمت كلّ الغرائبيّات (mysteries)، كما لم يكن ديونيسوس النيتشويّ بعيداً من اللاوعي الفرويديّ. أمّا بين الروائيّين والشعراء المتأثّرين بنيتشه، وبهذا الكتاب تحديداً، فالقافلة تطول والمناظرة تمضي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مساهمة نيتشه الشابّ في تأسيس اللاعقلانيّة الحديثة مساهمة نيتشه الشابّ في تأسيس اللاعقلانيّة الحديثة



GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon