توقيت القاهرة المحلي 17:17:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إنّها نوايا إبادة ثقافيّة... لا أقلّ!

  مصر اليوم -

إنّها نوايا إبادة ثقافيّة لا أقلّ

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

ربّما كان مقبولاً، في حالة حرب وطنيّة، أن تُضبط الحياة الثقافيّة على مصالح الحرب. هكذا، واستثنائيّاً فقط، ولمدّة زمنيّة محدّدة، قد تُمنع بعض التعابير التي يُشتمّ منها ما يفيد الطرف الذي يحارب الوطن وشعبه.

لكنّ الواضح تماماً أنّ ما يعيشه لبنان ليس حالة حرب وطنيّة. إنّه حرب يشنّها طرف محدّد من السكّان فيما ترفضها الأطراف الأخرى التي تشكّك بجدواها وأغراضها وبالقوّة التي تخوضها. أبعد من ذلك، يذهب هؤلاء النقّاد إلى أنّ تلك الحرب نفسها مشبوهة، تستهدفهم هم وتستهدف إخضاعهم بذريعة اشتباكها مع إسرائيل.

وعدم الإجماع هذا لا يقتصر على مجموعة ضئيلة ومعزولة من السكّان يمكن اتّهامها بالعمالة والخيانة وسوى ذلك، كما أنّه ليس تعبيراً عن انقسام إيديولوجيّ، كالذي عرفته فرنسا إبّان الاحتلال النازيّ، تحتلّ فيه الأفكار والمصالح (وهي بطبيعتها قابلة للتغيّر) موقعاً مركزيّاً. ذاك أنّنا، في لبنان، أمام انشطار أهليّ ثوابته أكبر كثيراً من متغيّراته، وهو لا يُعالَج إلاّ بواحد من اثنين: إمّا التسوية التي باتت مستبعَدة جدّاً في ظلّ استفحال الطرف المسلّح وحواشيه، وإمّا الحرب على الطرف الأهليّ (الدينيّ أو الطائفيّ أو الإثنيّ) الآخر، غير المسلّح، إن لم يكن مادّيّاً فعلى ميوله ورغباته الجمعيّة والطريقة التي اختارها لحياته. وبهذا المعنى فإنّ الميل إلى فرض وجهة نظر معيّنة على باقي المجتمع إنّما ينمّ عن ميل إباديّ، أو أقلّه نيّة إباديّة لطريقة في الحياة، نيّةٍ تبقى القدرةُ على تنفيذها وجعلها إبادة مادّيّة رهن الظروف والإمكانات المتاحة للطرف الإباديّ.

فليس غريباً، والحال هذه، أن يترافق حدثان ينمّ تلازمهما عن حجم الانشقاق الأهليّ، وبالتالي عن ضحالة الكلام على معركة وطنيّة جامعة وزيفه:

* منعٌ عمليٌّ، من خلال التخويف، لمسرحيّة وجدي معوّض «وليمة عرس عند رجال الكهف» التي كان يُفترض عرضها في منطقة مناهضة لحرب «حزب الله». أمّا الذريعة المعهودة، وهي أنّ معوّض «تطبيعيّ»، أي أنّه يرفض رؤية العالم بوصفه حرب بسوس دائمة ومطلقة، فأضيفت إليها ذريعة لا تقلّ تهافتاً هي موقف ألمانيا من الحرب على غزّة وتداعياتها!

* أجواء نزاع أهليّ بين اللبنانيّين آخرُ تعابيره اللغة التي رافقت مقتل المسؤول في «القوّات اللبنانيّة» باسكال سليمان، إن لم يكن القتل نفسه. وللتذكير، فإنّ بيئة «القوّات اللبنانيّة» هي تحديداً البيئة التي تتعرّض، ومنذ وقت لم يعد قصيراً، لاتّهامات التخوين وأعمال الاغتيال.

فانعدام الإجماع لا يدفع إذاً إلى البحث عن تسويات مع «شركاء الوطن»، بل إلى مزيد من إذلالهم بأن يُفرض عليهم ما لم يختاروه ممّا يرونه تهديداً لهم واعتداءً على خياراتهم. وهذا عملاً بمنطق الحرب الأهليّة وبِنِيّة الإخضاع الكامنة وراءها. ففي سياق كهذا يتمدّد الطرف المسلّح ليقضم الحياة الثقافيّة، وهذا مع العلم بأنّ كافّة التجارب التي نعرفها تقول إنّ مقصّ الرقابة النضاليّة لن يقف عند معوّض. فقد لا يكون مقبولاً، بعد اليوم، أن يشهد اللبنانيّون فيلماً لستيفن سبيلبرغ، أو يقرأوا كتاباً ليورغن هابرماس، ناهيك عن مئات أسماء الفلاسفة والمبدعين الذين لا يروقون للدائرين في فلك الممانعين.

والراهن أنّ الفئة العريضة المقهورة في لبنان ترى، وتقول، إنّها اختارت الانفتاح غير المحدود على الإنتاج الثقافيّ بوصفه جزءاً من ثقافتها ومن هويّتها، بل جزءاً من تصوّرها لمعنى الوطن ذاته. وهذا امتداد لتقليد يرقى إلى عشرات السنين عرف خلالها اللبنانيّون أحسن أيّامهم، وتعرّفوا فيها إلى العالم، كما أنتجوا أفراداً، كوجدي معوّض، صار بعضهم مبدعين على نطاق كونيّ.

أمّا الفئة العريضة القاهرة فلم يُعرف عن الناطقين بلسانها دفاع واحد عن كتاب مُنع أو عن مسرحيّة أو فيلم خُنقا. وهي لئن كان ولعها بالمنع جزءاً من تكوينها الذهنيّ والنفسيّ، فهذا أيضاً امتداد لتقليد يرى مثالاته في «منارات» ما يُعرف بـ «التحرّر الوطنيّ» أنظمةً أمنيّةً ووشايات وسجوناً واغتيالات. ومعروفٌ عن هذا التقليد المدجّج بالسلاح مدى رعبه من كلّ تعبير ثقافيّ يجافي هواه ولا يردّد ببغائيّاته المضجرة القاحلة.

بيد أنّ النوايا والمحاولات الإباديّة التي تتعرّض لها ثقافة بعينها تجد، للأسف، ما يدعمها في الأعمال العنصريّة المشينة التي يُنزلها بعض اللبنانيّين بحقّ اللاجئين السوريّين، وهذا فيما المرتكبون هؤلاء يزعمون الانتماء إلى اللبنانيّة التي تتعرّض للإخضاع والمهانة. فكأنّما اختار بعض المظلومين، بجبن وخسّة، أعداءً لهم يكونون أضعف منهم وأشدّ منهم تعرّضاً للظلم وللقهر.

على أيّة حال، يتبدّى اليوم أنّ من يريدون بلداً حرّاً، أكانوا أطرافاً أهليّة أو مثقّفين ومبدعين، محاصَرون مثلهم مثل فكرة ذاك البلد. ويُستحسن بالمثقّفين منهم، ممّن يريدون أن لا يقتصر التصدّي على «حزب طائفيّ»، أن يتفضّلوا، هم أيضاً، ويدافعوا عن الحرّيّات الثقافيّة. ذاك أنّ الممنوع والمرشّح للمحو ليس مسرحيّة أو كتاباً فحسب. إنّه لبنان الغنيّ بخياراته والمتعدّد والحرّ نفسه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنّها نوايا إبادة ثقافيّة لا أقلّ إنّها نوايا إبادة ثقافيّة لا أقلّ



GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon