توقيت القاهرة المحلي 21:29:50 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خلفيّات سودانيّة...

  مصر اليوم -

خلفيّات سودانيّة

بقلم: حازم صاغية

شكّلت أواخر الخمسينات ذروة تسييس الضبّاط العرب. في 1957 نفّذ علي أبو نوّار، في الأردن، انقلاباً ناصري الهوى، لم يُكتب له النجاح. في 1958، ركب ضبّاط سوريّون الطائرة إلى القاهرة من دون علم الرئيس والحكومة والبرلمان. هناك اتفقوا مع جمال عبد الناصر على فرض أمر واقع سُمّي الوحدة. عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف نفّذا أيضاً انقلاباً في العراق لإسقاط «سياسة الأحلاف» التي رعاها النظام المَلكيّ.
في السودان، اختلف الأمر. انقلاب إبراهيم عبّود في 1958، بعد عامين على الاستقلال، خلا تماماً من الآيديولوجيا. كان انقلاباً مهنيّاً، أو «كاريريّاً» إذا صحّ التعبير. سببه المعلن أنّ التوافق استحال داخل الأحزاب السياسيّة في ظلّ رئيس الحكومة عبد الله خليل. الحياة الحزبيّة عُطّلت والقادة السياسيون، بمن فيهم خليل، نُفوا إلى جوبا. الجيش عُقّم، وصُفّي اتّحاد نقابات العمّال وحُرّم الإضراب.
لكنّ الانقلاب، الذي كان بالتعريف ضدّ الديمقراطيّة، لم يسع بتاتاً إلى أدلجة نفسه. فهو لم يغيّر السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ولا طالب بالوحدة العربيّة. لقد ساعده في ذلك أنّ السودان عرف الاتّحاد مع مصر لستّة عقود، واستنتج أنّ ذاك الاتّحاد إلحاق يضاف إلى الإلحاق العثمانيّ، ومن بعده البريطانيّ. ولئن جعل المهديّون وطنيّة السودان واستقلاله هدفاً، فإنّ الختميين باتوا يكتفون بالعلاقة الودّيّة مع الجار الشماليّ، خصوصاً أن شهيّة عبد الناصر للابتلاع تفوق شهيّة سابقيه من حكّام القاهرة.
جعفر نميري، الذي استولى على السلطة في 1969، بدا لوهلة شيئاً مختلفاً. فهو وصل كناصري متحالف مع الشيوعيين، يستورد إلى الخرطوم تجربة «الاتّحاد الاشتراكيّ» ويباشر تأميم المصارف والشركات وتنفيذ إصلاحات زراعيّة. لكنّ تلك الوهلة كانت قصيرة جدّاً. فعبد الناصر نفسه ما لبث أن توفّي، وانتشرت لنميري صورة شهيرة وهو يبكي لحظة وصوله إلى الجنازة في القاهرة. لكنْ ما إن انقلب أنور السادات على الناصريّة حتّى انقلب معه نميري. وحين قاطعت الجامعة العربيّة مصر الساداتيّة ردّاً على كامب ديفيد، كان السودان على رأس الدول العربيّة القليلة التي لم تقاطع.
شيء آخر لعب دوره في الدفع إلى العراء الآيديولوجيّ. إنّه الخلاف مع الحزب الشيوعي بعد انقلاب الضابط هاشم العطا في 1971. الذي كاد ينجح لولا التدخّل الليبيّ. حينذاك أعدم أمين عام الحزب عبد الخالق محجوب والقائد النقابي الشفيع أحمد الشيخ وأُعلنت الشيوعيّة جريمة. بيد أنّ الحكّام العسكريين ارتدعوا، بسبب تلك التجربة، عن استيراد النمط السوفياتي الذي عمّ البلدان العربيّة الأخرى المحكومة بالعسكر. هكذا بقي النظام أشدّ هلهلة وأقلّ تبريراً لذاته.
عمر البشير، الذي استولى على السلطة في 1989، بدا هو الآخر آيديولوجيّاً: إنّه مجرّد ضابط إسلامي يحكم نهاراً، فيما شيخه حسن الترابي من يحكم في الليل. ونزولاً عند رغبة الأخير صارت الخرطوم مقرّاً لتنظيمات راديكاليّة وأمميّة وإرهابيّة. أسامة بن لادن الذي أقام فيها بين 1990 و1996 كان واحداً من هؤلاء.
هذه الوهلة الأولى لم تدم هنا أيضاً. العسكري المصنوع ما لبث أنّ تمرّد على الشيخ الصانع: في 1999 اختلفا، وفي 2001 اعتُقل الترابي بحجّة المذكّرة التي وقّعها حزبه «المؤتمر الشعبيّ» مع «الحركة الشعبيّة» الجنوبيّة.
الانعطاف الأضخم كان في الجنوب. ففي 2001، وضدّاً على سياسات الدمج القسري السابقة، وافق البشير على استفتاء الجنوبيين مدركاً أنّهم سيصوّتون للانفصال، وهذا ما حصل. إنّه الحدث الذي كان في وسعه أن يجعل البشير زعيماً تاريخيّاً مجيداً لو أنّه عبّر عن قناعة عميقة لديه بحقّ الجنوبيين في تقرير المصير. الأمر لم يكن كذلك بالطبع، إذ السبب الفعلي كان التخلّص من «عبء» المختلفين دينيّاً وإثنيّاً والرهان على إنهاء العقوبات الأميركيّة. كلفة هذا القرار كانت خسارة أكثر من ثلثي نفط السودان.
شيء آخر مثّل قاسماً مشتركاً بين العسكريين الثلاثة: كانوا كلّما خلا وفاضهم من الخطط والأفكار، وهو غالباً خالٍ، يقرّرون تعريب الجنوب وأسلمته وفرض الشريعة عليه. ضحايا القتال والمجاعة والتهجير توزّعوا على أكثر من حرب، وعُدّوا بالملايين، قبل أن تنضاف حروب أخرى في دارفور غرباً، وفي جنوب كردفان والنيل الأزرق. المآسي، هنا أيضاً، كانت من عيار الجرائم بحقّ الإنسانيّة.
إنّ في ذلك كلّه شيئاً من «تفاهة الشرّ» التي انتفض السودانيّون ضدّها مراراً، وينتفضون اليوم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خلفيّات سودانيّة خلفيّات سودانيّة



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 08:47 2020 الثلاثاء ,11 شباط / فبراير

ميسي وصيفا لـ محمد صلاح تسويقيا

GMT 16:55 2019 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السويد تعتقل عراقيا اتهمته بالتجسس لصالح إيران

GMT 06:05 2020 السبت ,03 تشرين الأول / أكتوبر

تعرّف على الفوائد الصحيّة لفيتامين "ك" ومصادره الطبيعية

GMT 05:39 2020 الخميس ,06 آب / أغسطس

حقيقة إصابة خالد الغندور بفيروس كورونا

GMT 07:44 2020 الثلاثاء ,16 حزيران / يونيو

سيفاس يفوز على دينيزليسبور بصعوبة في الدوري التركي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon