توقيت القاهرة المحلي 16:56:27 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لبنان: الأغاني الناشزة والطوائف القويمة

  مصر اليوم -

لبنان الأغاني الناشزة والطوائف القويمة

بقلم: حازم صاغية

قطاعٌ من شبيبة لبنان قرّر، قبل أقلّ من أسبوعين، أن يتحدّى إملاءات الطوائف وأذواقها. القطاع هذا، الذي أنتجه التعليم والاحتكاك بالعالم الخارجي والتفاعل مع قيم حديثة والتواصل الاجتماعيّ... ردّ على منع فرقة «مشروع ليلى» من الغناء في مدينة جبيل بإحياء سهرة في شارع الحمرا، جاءت إعلاناً صارخاً عن رفض مبدئيّ. لقد بدوا مثل مجتمع صغير ينشقّ عن المجتمع الأكبر، وهو بدوره متشقّق، ويقيم على هامشه. المجتمع الأكبر اعتبر الغناء ناشزاً بالقياس إلى كلامه ولحنه القويمين.
المنشقّون، مدفوعين بالحرّيّة والخيار الفرديّ، لمسوا، مرّة بعد مرّة، أنّ العالم القديم، بفساده وتضامنه العصبي وضيق فرصه، ليس مهيّأً لاستقبالهم. كلّ ما يملكه لهم صَدّهم وإغلاق الأفق في وجوههم. زملاء لهم سبق أن دفعوا انشقاقهم عن ذاك العالم إلى سويّة الهجرة. لقد هاجروا على دفعات، سنة بعد سنة، وما زالوا يهاجرون. النظام «كرّمهم» بأن ضمّهم إلى تلك التسمية السقيمة: منتشرون في العالم!
شيء آخر فيهم: إنّهم لا يطالبون بالحرّيّة من أجل استخدامها لقضيّة ما. هذا ما كانت عليه حال بعض المطالبين بالحرّيّات قبل الحرب: الحرّيّة لأجل حمل السلاح، لأجل تحرير ما، أو قضيّة عقائديّة ما. هنا، مع شبّان ما بعد الحرب، الحرّيّة للحرّيّة. الحرّيّة لكي يغنّي الأحرار الغناء الناشز.
شبّان لبنان هؤلاء خاضوا قبلاً ما عُرف بـ«حراك» 2015، ومعركة المجلس البلدي في بيروت، ومواجهات متفرّقة أخرى مدارها العنصريّة والعمالة الأجنبيّة وحقوق النساء وتطبيق القوانين... دائماً كانوا يوصلون رسالة الانشقاق نفسها.
لكنّ البعض، في مقالات صحافيّة وعبر وسائل التواصل، تسرّعوا وبالغوا، معتبرين سهرة الحمرا هزيمة للطائفيّة والطوائف، أو أقلّه طعنة نجلاء لها. هذا ليس صحيحاً. إنّه كلام يضلّل. ليت الأمر كذلك.
على العكس تماماً، فالتحرّكات الشبابيّة كلّها تقول كم أنّ الحيّز السياسي مغلق، تحتكره الطوائف. الاستثناء الصغير الذي مثّله انتخاب بولا يعقوبيان نائباً إنّما يؤكّد القاعدة. والحال أنّه لولا انغلاق السياسة على الطوائف، وتشبّعها بها، لما كانت المسائل التي توصف بـ«الأخلاقيّة» تحتلّ الحجم الذي تحتلّه اليوم، وتتّخذ الشكل الانفجاري الذي تتّخذه.
إلى ذلك، فالمناخ العربيّ، بتراجع حرّيّاته، وبثوراته المضادّة، وبإحكام قبضة العنف والرقابة عليه، يشي بمحدوديّة ما تستطيعه أي جزيرة صغرى قياساً بمحيطها الأعرض. هؤلاء الشبّان جزيرة داخل جزيرة.
لقد بات ملحوظاً أنّ عصيان أمر الطوائف لا يملك إلاّ رقعة أرض صغيرة هي رأس بيروت. هذه هي حصّة اللاطائفيين من مجموع المساحة الوطنيّة. المناطق الأخرى، مناطق الطوائف، كانت طاردة وصارت طاردة أكثر. وإذ يُستبعَد أن يتوسّع رأس بيروت، يُرجّح أن تتوسّع تلك المناطق، إن لم يكن جغرافيّاً فنفسيّاً وآيديولوجيّاً.
وجهة الأحداث، التي سبقت سهرة الحمرا ورافقتْها وتَلَتْها، جاءت مُتخَمة بهذا المعنى:
هناك مشكلة قبرشمون والبساتين التي استنفرت الطوائف وهدّدت بإطاحة «السلم الأهليّ». هناك، على إيقاع الاستفزاز الباسيليّ، تفسير المادّة 95 وتوزيع الوظائف العامّة. هناك أزمة تربل ومَطمرها، حيث ترفض الطوائف أن تقام في «أراضيها» مَكبّات لنفايات طوائف أخرى. وهناك، طبعاً، انبعاث التناقض المسيحي – الإسلامي الذي عاد ليصطفّ بكلّ مهابة إلى جانب أخيه التناقض السنّي – الشيعيّ. لقد شكّلت الذكرى السنويّة لحصار مخيّم تلّ الزعتر واقتحامه مناسبة تعبيريّة بليغة: المنطقان «الكلاسيكيّان» إيّاهما عادا بقوّة إلى الحضور، وفق ما دلّتنا صفحات التواصل الاجتماعيّ:
منطق يدين أصحابه همجيّة ما ارتكبه «الانعزاليّون الطائفيّون» (يُضاف، في حالة المعارضين منهم للنظام السوريّ، التنديد بمشاركة هذا النظام في المذبحة)، ومنطق يدين ما ارتكبه «الفلسطينيّون» و«الأغراب» في قرى وبلدات مسيحيّة. لم تظهر أصوات تدين الفعلين. لم يظهر، مثلاً، مَن يستنكر السلوك اللبناني المشين حيال المدنيين الفلسطينيين ويستنكر، في الوقت نفسه، التسلّح الفلسطينيّ. بلغة أخرى، لم يُسمع الصوت الذي يعارض الحرب فعلاً. سُمعت أصوات تشتهي استئنافها.
اشتهاء الحرب على نطاق أوسع هو ما عبّر عنه مجدّداً أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله. لقد وعدنا بـ«انتصار» آخر يترافق مع «اشتعال المنطقة» في حال تعرّض إيران للحرب. المضامين والانعكاسات الداخليّة للكلام لم يعد يعوزها الشرح: إنّ «انتصار» 2006 الذي احتفل بذكراه السنويّة قبل أيّام، مهّد لغزو بيروت في 2008. إذاً: الحدود التي تفصل عن العدوّ الخارجي هي مَراتب قوّة وتحكُّم في العلاقة مع أعداء الداخل.
هذا الأفق الممتدّ من انسداد السياسة إلى اشتهاء الحرب هو الذي يَثقل على صدر لبنان، وعلى صدور شبّانه خصوصاً. هنا تكمن محنة «شعب» اللاطوائف المنشقّ عن «شعوب» الطوائف.
وهو واقع مفتوح على التوسّع، لا الانحسار، لكنْ مع هذا يصرّ هذا القطاع من الشبيبة على المشاغبة عليه، بالكلمة وبالأغنية وبالقصيدة وبالسخرية وبما يتيسّر من مجابهات موضعيّة هنا أو هناك. أمّا الإصابة بالتفاؤل فأقصر الطرق إلى الإصابة بالإحباط في فترة تالية. يكفي، في الظرف الراهن، الحفاظ على حرّيّة الغناء الناشز، ولو في قلعة مُحاصَرة هي شارع الحمرا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان الأغاني الناشزة والطوائف القويمة لبنان الأغاني الناشزة والطوائف القويمة



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon