توقيت القاهرة المحلي 20:56:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

... على طريق الانهيار اللبنانيّ

  مصر اليوم -

 على طريق الانهيار اللبنانيّ

بقلم: حازم صاغية

فعلاً لم يعد لدى الكولونيل مَن يكاتبه. كولونيل غابرييل غارسيا ماركيز هو عندنا جنرال. وجنرالنا كفّ الكثيرون عن انتظاره بعدما كفّ هو عن انتظار أحد. سلطته، بالمعنى العريض للكلمة، لا تنضح إلاّ بعلامات تفكّك لم تعد سرّاً: ضمن أفراد العائلة العونيّة أنفسهم. بين «حزب الله» وبعض مؤيّديه وأنصاره. المسافة التي بات يقيمها بعض النوّاب عن رؤساء كتلهم النيابيّة. خلاف المصرف المركزي وجمعيّة المصارف (بالمناسبة: هذا الخلاف أهمّ ما أوحت به كلمة رياض سلامة في مؤتمره الصحافيّ، وهو أقلق أكثر مما طمأنت باقي المعطيات المشكوك بها)... وهذا ناهيك بالطبع عن سجال الأولويّة بين «السياسي» و«التكنوقراطي» و«التكنو سياسي»، وسجال أسبقيّة التأليف والتكليف... القدرة على النطق الواضح باتت ضئيلة. الكلمات تخون المتكلّمين.
معالجة الدَين بالدَين («سيدر» وما يشبهه)، تأجيل للأزمة التي لا تلبث أن تهبط علينا بحجم أكبر مما كان. لكنْ حتّى هذا المخدّر قد لا يُعطى فرصته لكي يخدّر: «سيدر» مثلاً مرهون بـ«إصلاحات» لا يملك أحد القدرة على تقديمها، وثمّة من يقول إنّ فرنسا تراجعت كلياً عن «سيدر». كذلك لا توجد حكومة أصلاً، ولا يبدو أنّها ستولد في القريب العاجل، وأزمة العلاقة بين «حزب الله» وما يُسمى «المجتمع الدوليّ» تعقّد كلّ انفراج؛ حيث تُعدّ العقوبات الأميركيّة أهمّ علامات تلك الأزمة دون أن تكون الوحيدة. ثمّ إنّ التصنيف الائتماني الجديد للبنان يخفض احتمالات منحه القروض والمعونات. وبعد كلّ حساب، فالاقتصادات التي يعوّل عليها النظام اللبناني لإنعاشه لا تعيش أسعد أيّامها. الاقتصادات الداخليّة الموازية وما يوازيها من زعامات سياسيّة تعمل كشبكات توزيع مأزومة أيضاً. أمين عام «حزب الله» يقترح علينا الصين وإيران وسوريّا الأسد علاجاً!
سياسياً لا يبدو الأمر أفضل حالاً: لوهلة، قد يفكّر واحدنا بنيو - شهابيّة، أو بحلّ على الطريقة السودانيّة تنشأ بموجبه مرحلة قصيرة تتوزّع سلطاتها بين الحركة الشعبيّة والمجلس العسكري الانتقاليّ. هذا مستحيل في ظلّ «حزب الله» الذي يقلقه أداء الجيش أدواراً سياسيّة عامّة. اكتراث العالم، في زمن الانكفاء الأميركيّ، يقتصر على زيارة استطلاعيّة إلى بيروت لوفد فرنسي يرأسه رئيس دائرة الشرق الأوسط في الخارجية.
ولأنّ الأزمة شاملة، يبدو كأنّ كلّ شيء ينهار. كلّ أنواع المطالب المحقّة تهطل تباعاً على الشارع، وهي تطال كلّ شيء: البيئة، المياه، الكهرباء، التعليم، الجنسيّة، السكن... طبقات، قطاعات، مناطق، عائلات، أفراد...
الديمقراطيّة كفّت عن امتصاص النزاعات، ليس فقط لأنّنا نعيش زمن الصعود الشعبوي، لكنْ أيضاً لسببين آخرين: أنّها باتت، في لبنان، مثلاً نموذجيّاً عن ابتلاع المال للسياسة، أي تحوّل الديمقراطيّة مجرّد واجهة لحيتان المال، ولأنّ قطاعات عريضة جدّاً من اللبنانيين باشرت الخروج من خيمة فلسفتها التوافقيّة التي سبق أن ضمنت لها الحياة المديدة. حكومات «الوحدة وطنيّة» أكملت مهمّة تقويض الديمقراطيّة. استفزازيّة جبران باسيل سبق أن فعلت فعلها أيضاً.
الرأسماليّة أيضاً ليست علاجاً لأنّها، في لبنان، شيء آخر اسمه «آيديولوجيا المال» التي تتعارض مع «روح الرأسماليّة». آيديولوجيا المال وتكديس الثروة هما أساساً من صفات المجتمعات «ما قبل» الرأسماليّة. الأخيرة، في المقابل، رأسمالها يصنعه الإنتاج والعمل والتعب، بل التقشّف أيضاً. آيديولوجيا المال تتباهى بالمال وبإنفاقه، وتستعرضه بفجور لا حياء فيه: مرتّبات ضخمة يتقاضاها مديرو المؤسّسات والشركات والمصارف، أعراس للأبناء باهظة الكلفة: «نجوم» يتوالدون بإفراط، قصور وعقارات وسيّارات فارهة، أبطال للبورصة يسمّونهم «الفتيان الذهبيين»... الرأسماليّة، على العكس، ينتابها شعور بالذنب لأنّها كذلك، شعورٌ تدفعه عنها ببناء المجتمع وحمل راية تحديثه وتطويره وتوسيع طبقاته الوسطى.
«آيديولوجيا المال» مأزومة اليوم كونيّاً، ومأزومة عندنا خصوصاً. أصحابها موصوفون بالسرقة ومطالَبون بإعادة أموال منهوبة. ولنتخيّل، أخيراً، ما آلت إليه حالهم وحالنا معهم، وهو ما لم يستطع رياض سلامة طمأنتنا بشأنه: التراجع في تمويل الاستيراد، وفي تسليف المستوردين، والحدّ من تلبية طلبات المودعين. هذا في بلد «رأسماليّ» يستورد معظم ما يستهلك!
الحلّ؟ دعوة إلى جلسة لمجلس النوّاب تمّ تأجيلها تحت الضغط الشعبيّ. نوايا الجلسة العتيدة يصعب تأجيلها: لقد أوحت بالتعامل مع الثورة كأنّها لم تحصل، وبالتحايل على القضاء والإمعان في تحطيم استقلاليّته، فضلاً عن تهريب العفو عن فاسدين في معطف العفو عن مظلومين. بهذه العقليّة «يفكّر» الحكّام.
استمرار الحال على هذا النحو لن يستمرّ طويلاً. الثورة، حتّى لو لم تُقمَع، قد لا تستطيع الحفاظ على سلميّتها. الذين يطحنهم الجوع واليأس قد يتخلّون عن تهذيبهم، والأصوات حين تبقى بلا صدى قد تتحوّل إلى أفعال جارحة. فمن الذي يضمن بعد اليوم، وبعد هذا الصنف من الاستجابات الرسميّة، ألاّ تندلع أعمال عنف ضدّ المصارف وبيوت السياسيين والأثرياء؟ ومن الذي يضمن ألاّ تنشأ، بتأثير الإحباط، حركات وتنظيمات إرهابيّة؟
هذا الانسداد يصعب الخروج بعلاجات مباشرة له. لكنّ الذين تسببوا بالمأساة يُستحسن أن يكفّوا عن الاقتراحات، ويغيبوا عن المشهد العامّ. اليوم أحسن من الغد.

وقد يهمك أيضًا:

صُور عن «اللبنانيّ» بدأت الثورة تغيّرها...

أطياف العالم القديم إذ تحاصر الثورة اللبنانية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 على طريق الانهيار اللبنانيّ  على طريق الانهيار اللبنانيّ



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 08:47 2020 الثلاثاء ,11 شباط / فبراير

ميسي وصيفا لـ محمد صلاح تسويقيا

GMT 16:55 2019 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السويد تعتقل عراقيا اتهمته بالتجسس لصالح إيران

GMT 06:05 2020 السبت ,03 تشرين الأول / أكتوبر

تعرّف على الفوائد الصحيّة لفيتامين "ك" ومصادره الطبيعية

GMT 05:39 2020 الخميس ,06 آب / أغسطس

حقيقة إصابة خالد الغندور بفيروس كورونا

GMT 07:44 2020 الثلاثاء ,16 حزيران / يونيو

سيفاس يفوز على دينيزليسبور بصعوبة في الدوري التركي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon