توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الكلام الكيماويّ

  مصر اليوم -

الكلام الكيماويّ

بقلم : حازم صاغية

 ضُرب أهل دوما، وسوريّون غيرهم، بالكلام الكيماويّ قبل أن يُضرَبوا بالسلاح الكيماويّ. الكلام الكيماويّ له أشكال كثيرة: حين سُكّ تعبير «سوريّة المفيدة»، وحين وُصف نزوح النازحين بأنّه يجعل الشعب أكثر تجانساً، وحين نُعتت أكثريّة السوريّين بـ «الإرهاب» و «التكفير» و «الإسلاميّة»... هذا كلّه كان كلاماً كيماويّاً. إنّه يقوم على نوع من التبويب الماهويّ الذي تكون تتمتّه القتل. مؤدّى هذا المنطق: أنتم فئران وحشرات، وللفئران والحشرات علاج واحد: الرشّ بالكيماويّ. أهميّة هذا العلاج تتضاعف حين تعاند الحشرة رافضةً أن تستسلم: حشرة وترفض؟ إذاً، فليكن الكيماويّ مضاعَفاً.

إدانة التبويب ليست رفضاً شعبويّاً لعلوم اجتماعيّة وتجريبيّة تميّز معرفيّاً داخل المجتمع الواحد: تميّز تبعاً للجنس والعمر والدخل والتعليم والدين والطائفة والإثنيّة... المقصود بالتبويب الذي يقترحه الكلام الكيماويّ ذاك التأويل الأيديولوجيّ المسبق الذي يلغي كلّ نشاط تجريبيّ وكل امتحانات الواقع. إنّه يصدر عن مُركّب وعي طائفيّ– طبقيّ شُيّد وراء سور كثيف يفصله عن البرابرة– البرابرة المحكومين فحسب بشرطهم البربريّ.

بالطبع، لا تزال النازيّة والشيوعيّة النموذجين الأشدّ تعبيراً واكتمالاً عن هذا الوعي: الأولى في تبويبها البشر تبعاً لداروينيّة مشوّهة. الثانية في اعتمادها «قوانين التاريخ» لتبويب البشر وموضَعَتهم.

ولأنّ هذا «الفكر» لا يرى الواقع، ولا يُعنى بدلالاته، فهو يمضي متماسكاً في خرافته المغلقة إلى ما لا نهاية. إنّه، على عكس الحركات الثوريّة التي تريد تحويل المجتمعات، يسعى إلى تحويل الطبيعة الإنسانيّة نفسها بما يلائم «قوانينه». أمّا النهاية الكابوسيّة التي يفضي إليها «الفكر» المذكور فهي جعل البشر فائضين عن الحاجة، أو عن اللزوم، وفقاً لتعبير شهير لهنه أرنت. ذاك أنّ القتل هو الدواء المنطقيّ لهؤلاء الواقعين خارج ضفّة الخرافة، الضالعين جوهريّاً في الشرّ والتخلّف وفي ما كان يسمّيه هاينريش هملر «روحيّة العبيد».

طبعاً سيكون من المبالغة أن نفترض امتلاك النظام الأسديّ المتهافت تماسكاً خرافيّاً من النوع النازيّ أو الشيوعيّ. لكنْ ليس من المبالغة النظر إلى عقل ذاك النظام بوصفه جَمْعاً لنُتَف مبعثرة من الخرافتين الفاشيّة والشيوعيّة. وليس صدفة أنّ القوى والأحزاب المتفرّعة عن هاتين الخرافتين، والتي لا تزال مقيمة فيهما، تلتقي عند تأييد بشّار الأسد وسياساته الكيماويّة.

وقد نضيف خرافة أخرى بدأت، منذ 2005، تؤثّر في التكوين العقليّ للنظام المذكور: إنّها ما ينجرّ عن النيوليبراليّة من تبويب لا يقلّ ماهويّةً، تبويبٍ يفصل الناجح عن الفاشل والقويّ المقتدر عن الضعيف المهيض الجناح. وأيضاً ليس صدفة أنّ رجال الأعمال وكبار المليونيريّين يقفون حيث تقف الغالبيّة الكاسحة من «قوميّين وتقدّميّين ويساريّين» على أنواعهم.

لكنّ ما حضّ على تسريع الانتقال من الكلام الكيماويّ إلى الفعل الكيماويّ عنصران: أنّ النظام عاجز فيما هو ينتصر. إنّه الصلعاء التي تتباهى بشَعر جارتيها الروسيّة والإيرانيّة، مدركةً أنّ رأسها لا يُنبت شعراً، وأنّ الفجور والتوحّش هما القبّعة والستر.

أمّا العنصر الثاني فأنّ العالم يجيز التوحّش الفاجر. انهيار «الخطّ الأحمر» الأوباميّ كان محطّة بارزة في هذه الإجازة. أمّا ضرب مطار الشعيرات بالأمس، ومطار تيفور اليوم، فقليل جدّاً ومتأخّر جدّاً بقياس الكيماويّ وأشكال القتل الكثيرة الأخرى. هذا في انتظار أن يقنعنا ترامب وماكرون بالعكس.

لقد حوّل الأسدان سوريّة إلى سجن، والسجن الأسديّ نصف الطريق إلى موت السجين. في موازاة ذلك، أسّست لغة «الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة» قاعدة صواريخ لغويّة ومفهوميّة ينطلق منها اليوم الكلام والفعل الكيماويّان سواء بسواء. هذان ليسا شيئين منفصلين. إنّهما الشيء عينه.

نقلاً عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكلام الكيماويّ الكلام الكيماويّ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon