توقيت القاهرة المحلي 04:13:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كأنّهم كلّهم... بعثيّون

  مصر اليوم -

كأنّهم كلّهم بعثيّون

بقلم : حازم صاغية

في أزمنة القلق والارتباك حيال الحاضر والمستقبل، يقوى الماضي بوصفه هاجساً ومثالاً. أمّا العودة المستحيلة إليه فتغدو الهدف والخلاص في آن معاً.

هكذا، وفي الأربعينات السوريّة، مع ذواء الانتداب وبدايات الاستقلال، وفي موازاة توسّع الإدارة والجيوش، وانطلاق الهجرات الريفيّة إلى المدن، وفيما العالم كلّه يتدبّر أمره مع انتهاء الحرب العالميّة الثانية، ولد حزب البعث العربيّ. وإذا صحّ أنّ الأخير لم يكن أكثر الأحزاب القوميّة التي عرفها العالم العربيّ حينذاك تعويلاً على الماضي المتخيّل، إلاّ أنّه كان ماضويّاً بما فيه الكفاية. فاسم الحزب نفسه يقول إنّ المستقبل الزاهر لا يكون إلاّ تكراراً لماضٍ ينبغي «بعثه». أمّا الذين جرفوا الأمّة عن عظمتها المفترضة وفصلوا ذاك الماضي المجيد عن حاضرنا الرديء، فليسوا نحن. إنّهم أغراب وأجانب و «شعوبيّون»، كالأتراك والفرس.

هذه الخرافة تغدو اليوم عالميّة. فمع الأزمة التي عبّر عنها انتخاب دونالد ترامب، بعد تصويت بريكزيت، وفي ظلّ قلق العولمة وتحدّيات الهجرة وانتقال مركز الكون إلى الدائرة الآسيويّة- الباسيفيكيّة، صار القادة الشعبويّون وأشباه الشعبويّين، في العالم بأسره، يعملون على «بعث» ماضٍ ما بوصفه هو المستقبل. فدونالد ترامب يريد أن يجعل أميركا عظيمة «ثانيةً»، على اعتبار أنّها كانت عظيمة في مرّة «أولى» انقطعت في الزمن. والرئيس الصيني شي جينبينغ ينوي «إعادة تجديد عظمى للشعب الصينيّ». وقبل ترامب بثلاثة أعوام، كان الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين قد تعهّد، وبالحرف، جعل روسيا «عظيمة ثانيةً»، بينما السلطنة العثمانيّة هي القبلة التي يرنو إليها الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان. أمّا فيكتور أوربان، رئيس حكومة هنغاريا، فلا تغيب عن لسانه وذاكرته صورة بلده قبل أن يفقد الأراضي التي فقدها في الحرب العالميّة الأولى. وتصيب العدوى قادة لا تنطبق عليهم صفة الشعبويّة، أو لا تنطبق إلاّ بالحدّ الأدنى. فرئيس حكومة اليابان شينزو أبي يقود حملة «للإحياء القوميّ» استشهدت بنهضة الميجي في القرن التاسع عشر. وهكذا دواليك...

أكثر من هذا، يدفع الحنين إلى الماضي، بالفعليّ منه والمتوهّم، بعض اليمين الأميركيّ المتطرّف، على ما تروي «إيكونوميست» البريطانيّة، إلى «الانسحار بالقرون الوسطى». وهذا بعدما تركّز الاهتمام الأميركيّ بالتاريخ، ما خلا اهتمام الأخصائيّين، على أزمنة أحدث عهداً تمتدّ من تأسيس الجمهوريّة، فالنضال ضدّ العبوديّة والفصل العنصريّ، وصولاً إلى الانتصار على ألمانيا النازيّة.

وباستعارة «اليمين – الأميركيّ – البديل» فصولاً من التاريخ الأوروبيّ وتمثّلها، بذريعة «وحدة الحضارة المسيحيّة البيضاء»، تُقدّم اليوم وجوه كالملك شارل مارتيل الذي قاتل جيوش المسلمين في القرن الثامن، بوصفها وجوهاً معاصرة. أمّا هزيمة العثمانيّين على أبواب فيينا، التي تلت القرون الوسطى مباشرة، فتلوح حدثاً راهناً. وبالطبع تُرسم روسيا قلعة حدوديّة لـ «عالم المسيحيّين» في مواجهة «عالم المسلمين».

والوجهة هذه، بنضاليّتها وتوكيدها على الصراع والغلبة، إنّما تناقض وجهة إنسانيّة طغت، منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية، على النظر إلى الماضي. فهذه الأخيرة، ومن خلال الفنون وعلم النفس والأنثروبولوجيا، بدت مهجوسة بالتشديد على الواحديّة الإنسانيّة وعلى ما هو مشترك بين «البدائيّ» والمتقدّم.

أهمّ من ذلك أنّ معظم القادة المذكورين أعلاه يبنون أنظمة أشدّ فساداً وزبونيّة، وأكثر خلطاً بين العائليّ والسياسيّ، فضلاً عن إمعانها في تيسير مصالح المقرّبين من الحاكم وأهل بيته على حساب منافسين لا تصحّ فيهم المواصفات هذه. وإلى ذلك، فهي أنظمة أثقل وطأة على الإعلام والحرّيّات، وأشدّ عداء للتنوّع في الميادين الحياتيّة والثقافيّة والجنسيّة.

وهذا أيضاً فيه الكثير من البعث الذي صادر عهد الإسلام الأوّل واستعاده لصالح عهد صدّام الأخير، وعهد بشّار الذي يجهد أقوياء العالم للحؤول دون صيرورته أخيراً.

المصدر: صحيفة الحياة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كأنّهم كلّهم بعثيّون كأنّهم كلّهم بعثيّون



GMT 04:35 2024 الأحد ,18 شباط / فبراير

أميركا بعيون تاكر كارلسون

GMT 04:25 2024 السبت ,17 شباط / فبراير

قراءة في مقابلة السيد بوتين

GMT 00:01 2023 الإثنين ,11 أيلول / سبتمبر

بوتين والحياة من دون «فاغنر»

GMT 00:01 2023 الثلاثاء ,05 أيلول / سبتمبر

بين بريغوجين... وحسين كامل!

GMT 00:01 2023 الأربعاء ,30 آب / أغسطس

الطبّاخ الذي مات بسُم الكراهية!

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon