توقيت القاهرة المحلي 04:56:10 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الثقافويّة والثقافويّة المقلوبة

  مصر اليوم -

الثقافويّة والثقافويّة المقلوبة

بقلم : حازم صاغية

مع قيام الثورات العربيّة ظهرت أصوات نعتها نقّادها بـ «الثقافويّة». فهي تغضّ النظر عن السياسة والسلطة لتركّز على نقد الدين والقيم. بهذا، تحوّل الأنظار عن الاستبداد، إن لم تتحوّل عوناً له. المهمّة المباشرة والحارقة في طلب الحرّيّة تُستبعد لمصلحة المهمّة التي هي عمليّة تاريخيّة مديدة وتثقيفيّة كبرى.

عيب الثقافويّة هذه ليس بالضرورة في النقد الذي توجّهه للثقافة، وكثير منه وجيه وفي محلّه، بل في النقد الذي لا توجّهه للسياسة. والنقد الأخير ليس بديلاً عن النقد الثقافيّ، إلاّ أنّه شرط لجدواه. ففقط بعد نيل الحرّيّة، وفي بيئة الصراع لإحرازها، يتاح للمواطنين أن يتصدّوا لأسئلة عالمهم ولأفكاره، بموجب تجاربهم ومصالحهم. وفي مناخ الحرّيّة السياسيّة والتعبيريّة وحدها، يأتي النقد الثقافيّ موصولاً بالاختبار العمليّ، لا بالطرف السلطويّ الذي يستخدم هذا النقد على هواه، ثمّ يحبطه، حين يناسبه ذلك، على هواه أيضاً.

ما يزيد الإلحاح على نقد الثقافويّة أنّ أجهزة الدولة في البلدان التي شهدت الثورات ليست حياديّة وعديمة التدخّل في الثقافة والاجتماع. إنّها في كلّ لحظة تتدخّل في الشؤون الروحيّة والقيميّة بحيث يغدو وهماً افتراض التغيير و «التنوير» و «تجديد الخطاب الدينيّ» في ظلّها.

اليوم تواجهنا، في بلداننا وفي العالم، ثقافويّة مقلوبة: فبدل «ديننا وحضارتنا هما الأسوأ» ترتفع شعارات ضمنيّة تفيد بأنّ «ديننا وحضارتنا هما الأحسن». وبدل التمسّك بالواقع السياسيّ القائم، يحلّ تمسّك بالواقع الثقافيّ القائم.

وراء ردّ الفعل هذا عنصران: واحد هو القمع الذي تعرّضت له الشعوب التي ثارت، فجاء الردّ يستنطق سائر أنواع التخلّف المقيمة أصلاً وبقوّة في تراكمنا الثقافيّ: القوميّ والدينيّ والطائفيّ والقبليّ... والثاني هو الترامبيّة ورُهاب الإسلام الذي يستحضر ردّاً متوتّراً عليه. لكنْ إذا كانت الثقافويّة الأولى نخبويّة متعالية، فهنا نقع على شعبويّة يراد رفعها إلى مصاف نخبويّ.

اليقظة الثقافويّة هذه، لا سيّما في الغرب، تحمل بعض العلامات الصحّيّة، كالتعاون اليهوديّ – المسلم في الولايات المتّحدة (يهود يستضيفون للصلاة في معبدهم مسلمين دُمّر مركز عبادتهم، ومسلمون يجمعون تبرّعات لإعادة بناء مقبرة يهوديّة دُنّست)... أو الاستنفار الثقافيّ الواسع ضدّ ترامب والحمولة التعدديّة الخصبة لذاك الاستنفار (وإن لم يكن يُغني عن انضمام قطاعات أخرى، خصوصاً العمّال البيض ممّن سيبقى التغيير صعباً من دونهم).

لكنّ الردّ الثقافويّ على أنظمتنا أو على ترامب يبقى هو أيضاً، وفي حالتيه، أسير استبعاد السياسة. فوق هذا، كثيراً ما يبدو هذا الردّ، في بلداننا كما في الغرب، أسير هزيمة السياسة، والهزيمة تجسّدها مصائر الثورات هنا وصعود ترامب هناك. وهذا فضلاً عن أنّ ردّاً كهذا مُولّد لمزيد من الطائفيّة والفِرَقيّة اللتين ترفدانه بالقوّة في البداية ثمّ تبدّدان قوّته وقدرته على التغيير. إنّه نوع من تسمين الطريدة. فإذا كانت الثقافويّة الأولى تتاخم التعالي العنصريّ في نظرتها إلى الشعب، فالثقافويّة الثانية تتاخم التعالي نفسه في تعميم نظرة ما إلى الآخر ضمن هذا الشعب ذاته. إنّها تجزّىء وتفتّت وتكلّل مساعي التغيير بالحروب الأهليّة.

فرُهاب الإسلام لا يُردّ عليه، كما يحصل اليوم في بعض الجامعات والكتابات، بالتمجيد والذوبان في ما يتعرّض للاضطهاد. وما نطالب بحقّه وبحقّ تعبيره وتمثيله ليس بالضرورة موضوعاً للأمْثَلَة. الثقافويّة هذه قد نعيش معها طويلاً، معارضين ومساجلين، فيما لا تزال الثقافويّة الأولى تمارس الفتك والعدوان. أمّا إذا كنّا محكومين بشيء فعلاً، فهو إطلاق النار في اتّجاهات عدّة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الثقافويّة والثقافويّة المقلوبة الثقافويّة والثقافويّة المقلوبة



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon