توقيت القاهرة المحلي 17:17:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن العراق المعذّب الذي زاره البابا

  مصر اليوم -

عن العراق المعذّب الذي زاره البابا

بقلم: حازم صاغية

العراق بلد معذّب. قصائده مسكونة بهذا العذاب. أغانيه تنشره وتذيعه. هناك شعور عميق بالذنب يُثقل على نفوس العراقيّين، معطوف على التمدّد الإيرانيّ و«داعش» والميليشيات والفساد والإفقار. وبعيداً من الدور الذي يُنسب إلى خذلان الحسين بن علي ومعركة كربلاء في تأسيس هذا الشعور، يبقى أنّ الزمن الحديث نفسه غنيّ بأسباب الذنب: مَن يُقتل اليوم يُكتشَف غداً أنّه كان ضحيّة ومظلوماً، أمّا الدروب التي تُسلك فغالباً ما تفضي إلى نهايات كئيبة غير التي خُطّط لها مع بدء المسيرة.
الشعور بالذنب قد تعبّر عنه كتلة سكّانيّة في هذا الطور، وكتلة أخرى في طور آخر، إلاّ أنّ حضوره الطاغي يبقى واحداً من العناصر الصانعة لسياسة العراق واجتماعه، أو بالأحرى لضعف هذين السياسة والاجتماع.
لنراجع التاريخ قليلاً:
الضبّاط العثمانيّون الذين انحازوا إلى ثورة الهاشميّين في 1916 وجدوا أنفسهم يقاتلون الألمان الذين درّبوهم، جنباً إلى جنب البريطانيّين الذين تربّوا على كرههم. بعد ذاك، شارك هؤلاء الضبّاطُ الرسميّين الإنجليز حكم دمشق لفترة قصيرة، ثمّ حكم بغداد لفترة طويلة يرى البعض أنّها امتدّت حتّى 1958.
الذين أعلنوا «ثورة العشرين» في الوسط والجنوب انتبهوا فجأة، مع انتهاء الثورة، إلى أنّهم لم يؤذوا إلاّ أنفسهم. لقد أُبعدوا عن القرار السياسيّ واستمرّ إبعادهم حتّى 2003.
في 1941 كان بوغروم «الفرهود» الذي أُنزل بيهود العراق. بعده انطلقت العمليّة التي أفرغت ذاك البلد من يهوده، بعدما شكّلوا أكثر من ربع سكّان بغداد في عشرينيّات القرن الماضي. اليوم هناك حنين معلن، في الكتابة والمذكّرات والسينما، إلى يهود العراق و«أيّامهم».
العقود التالية شقَّت للمأساة طُرقاً أعرض. في 1958 كانت المذبحة التي حلّت بالعائلة المالكة وصبغت بالدم وجه الجمهوريّة الوليدة. في 1963 وبدمويّة مُفرطة، أسقط البعثيّون عبد الكريم قاسم ثمّ أعدموه. منذ 1968 والنظام يورّط أعداداً من العراقييّين في إيلام عراقيّين آخرين. حروب صدّام تأدّى عنها موت كثيرين من مواطنيه وكثيرين من سواهم. إعدامه فجر يوم عيد الأضحى عام 2006 والحرب الأهليّة في العام نفسه كانا مصنعين سخيّين لمشاعر الذنب.
كلّ واحد من تلك الأحداث المفصليّة كان يُدمي، عند هذا الفريق أو ذاك، قلوباً كثيرة. واليوم، بعض العراقيّين يبكون فيصل الأوّل والعائلة الهاشميّة. بعضهم يبكون قاسم وبعضهم يبكون صدّام، وأكثر منهم من يبكون ضحايا صدّام وحروبه.
وفضلاً عن البكاء على اليهود، هناك البكاء على الكرد أو على المسيحيّين. ففي تلك الغضون لم يتوقّف قتل الكرد الذي دُشّنت به ولادة العراق الحديث: في 1920 نشأ البلد بُعيد القضاء على انتفاضة محمود الحفيد. الطلب على الدم الكرديّ لم يتوقّف مذّاك.
أمّا المسيحيّون، الذين جاء البابا فرنسيس لتعزيتهم ورفع معنويّاتهم، فتاريخ ألمهم في العصر الحديث يبدأ مع مذبحة الأشوريّين عام 1933 ليجد تتويجه مع «داعش». عدد مَن بقي منهم في العراق انخفض من مليون ونصف المليون مطالع هذا القرن إلى ما بين 300 و400 ألف نسمة اليوم.
هذا التاريخ الذي يسقيه الدم هو الذي حضر البابا فرنسيس لتهدئته. لكنْ هل يستطيع البابا؟
في 2003، حين أسقط الأميركيّون صدّام حسين، بدا للبعض أنّ فرصة نشأت لإنهاء تاريخ من العنف الدمويّ ووضع حدّ لمشاعر الذنب ذات المصادر المتعدّدة. امتلاك العراقيّين لعراقهم في ظلّ حياة ديمقراطيّة لاح في الأفق.
التطوّرات اللاحقة خطّأت أصحاب هذا التقدير: أصحاب حصّة الأسد في السلطة الجديدة وهبوا العراق لإيران في ظلّ انسحاب أميركيّ متدرّج. لقد غلّبوا الطائفيّ على الوطنيّ مقلّدين أسلافهم في السلطة بعد تغيير الأدوار. وكلّما قويت إيران قويت «داعش» أو ما يعادلها، وقُتل مسيحيّون وغير مسيحيّين أكثر. عند ذاك تتعالى أصوات الداعين إلى حضور إيرانيّ أقوى في العراق، يضمن العراقيّين في مواجهة «داعش»، وهكذا دواليك...
تلك الهديّة العظيمة الممنوحة لإيران وما انجرّ وينجرّ عنها قد تتحوّل، في غد ما، سبباً لشعور بالذنب يتجاوز كلّ ما سبقه من صنف المشاعر هذه.
أمّا زيارة البابا فكونها محاطة بهذا المناخ هو سبب القلق عليها وعلى نتائجها. ذاك أنّ التبشير بالمحبّة بين كارهين وطامعين مرشّح أن يبقى تبشيراً محضاً، ومثله الدعوة إلى سلام وسط محاربين. والحال أنّ المحبّة والسلام المُقاتلَين هما وحدهما ما ينقذ العراق من آلامه ومن مشاعر الذنب التي ترتّبها تلك الآلام.
البابا فرنسيس بالطبع لا يقاتل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن العراق المعذّب الذي زاره البابا عن العراق المعذّب الذي زاره البابا



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon