توقيت القاهرة المحلي 22:02:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الشعبويّة ووتائر التقدّم

  مصر اليوم -

الشعبويّة ووتائر التقدّم

بقلم : حازم صاغية

بعض من فسّروا الفاشيّة وحلّلوها ذهبوا إلى أنّ لينين هو مَن أتى بموسوليني وهتلر. ومفاد الرأي هذا أنّ الجذريّة اليساريّة التي استعجلت المستقبل، كما عبّرت عن نفسها في ثورة 1917 البلشفيّة، إنّما أثارت ذعر الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا الأوروبيّة، فردّت الأخيرة باستحضار جذريّة يمينيّة وماضويّة كانتْها الفاشيّة.

اليوم، مع صعود الشعبويّات في الولايات المتّحدة وأوروبا، ومع هذا الجنوح الجنونيّ إلى اليمين، يستعيد المرء تطوّرات كبرى شهدتها العقود الثلاثة المنصرمة، تلاحقت بتسارع وكثافة غير مسبوقين. والحال أنّ التطوّرات المذكورة استفزّت واستنفرت كتلة ضخمة ومتفاوتة، في عدادها ضحايا ومتضرّرون ومفقَرون ومهمّشون ونوستالجيّون وقوميون ومؤمنون ورجعيّون وعنصريّون على أنواعهم.

فالتحديث التقنيّ وثورة المعلومات والعولمة نقلت الكون إلى ما بعد الصناعة، كما تجاوزت حدود الدول وأسواق العمل الوطنيّة، بما في ذلك من ترحيل الإنتاج إلى بلدان أخرى. لكنْ إلى هذا، وإلى الهجرات السكّانيّة الضخمة، جدّت أحداث لا تقلّ أهميّة في السياسة والفكر السياسيّ واكبتها سلوكات وردود أفعال ملازمة غيّرت وجه العالم.

فالاتحاد الأوروبي، إذا ما اعتبرنا أنّ بدايته العمليّة كانت اتفاق ماستريخت في 1992، ثمّ ولادة اليورو بديلاً عن عملات عريقة كالفرنك الفرنسيّ والمارك الألمانيّ، كانا انقلاباً طاول مستويات الوجود الاجتماعي والفردي لعشرات الملايين.

وكان التغيّر الأكثر داخليّة مع نشأة المجتمع التعددي ثقافياً وإثنياً ولغوياً. فما انطلق، أوائل السبعينات، من بلدان هجرة ككندا وأستراليا، شرع، في التسعينات، يستوطن بلدان أوروبا وينحّي جانباً قوميّاتها التاريخيّة المُعتدّة بذاتها. وقد مال نقّاد المجتمع التعددي إلى تصوير التحوّل هذا في صورة العمليّة الكيماويّة التي تمزج وتخلط عناصر في غاية التباين، كما ندّدوا به بوصفه تأسيساً ثانياً للاجتماع الوطنيّ، تأسيساً يستغني عن الماضي وعن كل مرجعية قائمة، وعلى قدم المساواة يتشارك فيه «الأصلي» و»الغريب» الوافد لتوّه.

وبعض ما غيّره ذاك التحوّل أنّ «الإثنيّة» و»الدين» شرعا ينافسان «الطبقة» بوصفها الوحدة التي تطوّرت بموجبها السياسة والفكر السياسيّ في العالم الغربيّ. لكنْ فيما حملت نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر السوفياتيّ على الترحيب باستبعاد «الطبقيّ»، كان تنامي التفاوت الاقتصاديّ وتراجع المساواة يجعلان الفقراء «البيض» أشدّ حسرة وتحفّظاً على هذا الجديد. فلئن وَجد الفقراء «الملوّنون» والأقلّيات على أنواعها في صعود المجتمع التعددي ما يكافئهم ويعزّيهم، تصدّعت أدوات زملائهم «البيض» ونقاباتهم وأحزابهم، وتغيّرت طبيعة نواديهم الرياضيّة الأثيرة، فضلاً عمّا أصاب سوق العمل نفسها بسبب الاتّفاقات التجاريّة وتفريع الإنتاج.

وفيما لم يعد العالم المعروف قابلاً للتعرّف، أخضع «الصواب السياسي»، الذي بدأ يشيع أواخر الثمانينات انطلاقاً من الولايات المتّحدة، الألسنة والصور وحسّ الدعابة وشطراً عريضاً من المحكيّ والمكتوب والمسموع والمرئيّ، لرقابة صارمة بدت لكثيرين قمعيّة، وبدت حتّى لبعض التقدميّين سخيفة تُحلّ التركيز على الكلمات والإشارات محلّ التركيز على القوانين والعلاقات الفعليّة.

وبمعنى ما جاء انتخاب «الأسود» و»المسلم» باراك أوباما رئيساً للولايات المتّحدة، ولثماني سنوات، تتويجاً لكلّ تلك الانقلابات التي أصابت العالم المألوف والحميم، لا سيّما أنّ المواعيد الزمنيّة كانت تتزاحم في الإعلان عن تحوّل البيض الأميركيّين من أكثريّة عدديّة إلى أقلّية. هكذا لم يعد ينقص البيئة الذكوريّة والمؤمنة المرتعدة خوفاً إلاّ وصول «المرأة» هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض.

وشهدت السنوات الثلاث الماضية انفجار الهجرة واللجوء، من سورية ومن سواها، لتطرح على بلد كألمانيا أسئلة ليس الألمان كلّهم مؤهّلين لتقديم إجابات إيجابيّة عنها.

لقد كانت تلك التغيّرات، بغضّ النظر عن الموقف منها، من طبيعة جيولوجيّة. مع هذا، وُجد بين أصحاب الفائض الثوريّ من يقول، ومن لا يزال يقول، أنها شكليّة وسطحيّة وأقرب إلى التضليل، من دون أيّ اكتراث بالممكنات الفعليّة كما تراها قطاعات عريضة من السكّان.

لكنّنا وقد رأينا ما رأينا، من بريكزيت إلى ترامب واحتمال لوبن، جاز لنا القول إنّ التقدّم الذي يتمّ بالأمتار، وتكرّسه القوانين، أرسخ وأضمن بلا قياس من التقدّم بالأميال الذي لا تلبث أن تعقبه ارتدادات رجعيّة خطيرة. وهذا، بالطبع، حين يمكن التحكّم بالأمر الذي يستحيل أحياناً التحكّم به.

لكنْ، وقد حصل ما حصل، لا يملك ديموقراطيّو أميركا وأوروبا إلاّ أن يقاوموه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشعبويّة ووتائر التقدّم الشعبويّة ووتائر التقدّم



GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon