بقلم حازم صاغية
في موازاة الذكرى المئويّة لاتّفاقيّة سايكس – بيكو، والذكرى الثامنة والستين لنكبة فلسطين، يبدو التاريخ ذاك المحيط الذي يغمرنا ولا يترك للمستقبل ما يتعدّى مساحة جزيرة.
وفضلاً عن التاريخ الصريح الجاثم دوماً بكلّ جلاله، مصحوباً بأقدار معتبرة من التزوير والكتابة المزغولة، هناك التاريخ المكبوت الذي يعود إلى المشرق العربيّ عودات متفاوتة، بل متضاربة. وقد لا يكون واحدنا مسرفاً في التأويل إذا قال إنّ الثورة السوريّة كانت مناسبة كبرى لبعض هذه العودات المشرقيّة. ذاك أنّ ما لم يفعله موقع سوريّة المركزيّ وتداخل تاريخها بتاريخ جيرانها، فعلته الهزّة العميقة التي أحدثتها الثورة في الإقليم برمّته.
ففي لبنان مثلاً ظهرت مواقف لا يسهل فكّها عن التاريخ في تعدّد صيغه ورواياته.
فهناك تاريخ الذين أحبّوا الوحدة مع سوريّة واعتبروا قيام لبنان انفصالاً عنها وبتراً لها، فتعاملوا مع الثورة بوصفها ثورتهم، لا بوصفها الثورة التي يؤيّدونها ويتعاطفون معها كمواطنين في بلد آخر. وهناك تاريخ الذين خافوا دائماً من سوريّة الأكبر والأقوى، والتي مارست عليهم لعقود وصايتها وقسرها، فأخذوا ثورتها بجريرة نظامها وكرهوا الإثنين. وهناك تاريخ الذين انتقلوا من المقدّمة نفسها، أي الكراهية لسوريّة، لكنّهم كرهوا الشعب وحده، ظانّين أنّ النظام لم يفعل سوى ترويض العدوانيّة الجوهريّة في الشعب، وهكذا أذعنوا للنظام في سوريّة بعدما عاشوا مذعنين له في لبنان. وهناك تاريخ الذين أيّدوا الثورة بعدما صادروها فسيطروا على تأويلها، مقدّمين عنها رواية متشاوفة وعوجاء مفادها أنّ «ثورة الأرز» أمّها الوالدة.
لكنّ العوارض المشابهة التي ظهرت في فلسطين أتت أوضح وأكبر وأخطر. والعارض الأبرز هنا كان المنافسة على مبدأ الثورة والاستحواذ عليها. وقد سبق لإلياس كانيتّي أن تحدّث عن مرارة بعض الفرنسيّين حيال الثورة الروسيّة، لأنّ مصطلح ثورة، قبل الثورة الروسيّة، كان لا يعني إلاّ الثورة الفرنسيّة.
ففلسطينيّو هذا الموقف إنّما شابهوا اللبنانيّين الذين قالوا إنّهم ضدّ سوريّة خوفاً على كيانهم، لينتهوا ضدّ الشعب وحده من دون النظام.
صحيح أنّ الوطنيّة الفلسطينيّة ترتاب تقليديّاً بالوطنيّة السوريّة التي اعتبرت فلسطين «جنوب سوريّة»، الأمر الذي يرقى إلى زمن المؤتمر الوطنيّ السوريّ في عهد فيصل بن الحسين القصير، وإلى تنازع الهوى البريطانيّ في دمشق والهوى المضادّ للبريطانيّين في القدس. وقد ظهر التنازع في صيغ مختلفة إبّان حرب حافظ الأسد على ياسر عرفات الذي لم يكن عنده «القرار الوطنيّ المستقلّ» سوى صرخة في وجه الأسد وهيمنته. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ العاطفة الفلسطينيّة الأقوى تتمسّك بما أنتجته سوريّة الرسميّة لجهة تحويل فلسطين «قضيّة مركزيّة» تمنع أيّاً من الشعوب العربيّة، ولا سيّما الشعب السوريّ، من أن تكون لها قضايا. هكذا صار إنتاج النظام السوريّ هو إيّاه تراث الوطنيّة الفلسطينيّة في نسختها الرائجة.
وهذه نسخة لا تسائل الأسدين، الأب والابن، عمّا فعلاه بالفلسطينيّين، بل عمّا فعلاه بقضيّة فلسطين ذاتها التي خفضها الألم والمعاناة الإستثنائيّان للسوريّين إلى مصاف العاديّة. لكنّها أيضاً لا تسائل النفس بشيء من الأمانة: هل أنّ نظاماً كنظام الأسد هو ما يُشتهى أن يقوم في فلسطين التي يُراد تحريرها؟ وأيّ تحرير سيكون ذاك؟