توقيت القاهرة المحلي 04:41:37 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صعود المسيحية السياسية في لبنان وهبوطها

  مصر اليوم -

صعود المسيحية السياسية في لبنان وهبوطها

بقلم: حازم صاغية

إبّان الحرب العالميّة الثانية، مالت عواطف المسيحيين اللبنانيين إلى «فرنسا الحرّة» وديغول. القوميّون العرب والقوميّون السوريّون تعاطفوا مع حكومة فيشي.
تلك كانت إشارة إلى أنّ وعي المسيحيين اللبنانيين كان لا يزال أميناً لمحطّتين تقدّميّتين سابقتين: الأولى ما عُرف بـ«النهضة العربيّة»، اللغويّة والثقافيّة، التي بدأت أواخر القرن التاسع عشر في جبل لبنان. والثانية إنشاء «لبنان الكبير» في 1920، كإدراك مبكر لضرورة الدول - الأمم بعد انهيار الإمبراطوريّات.
ذاك السجلّ لم يكن عسلاً خالصاً: تعدّديّة الكيان الوليد لم تقم على المساواة بين مُكوّناته، والإحياء الثقافي مارس التمييز الذي كرّسته مناهج التعليم، لصالح المسيحيين. لكنّ الماضي لا يُحاكَم بمعايير اليوم، والأهمّ أنّ الأمور أوحت أنّها مُشرَعة على احتمالات: السياسة في الجبل، وفي لبنان، استقطبت الطوائف والجماعات ذات الانشقاقات المُركّبة: مسيحيّون ودروز ومسلمون يؤيّدون بشارة الخوري أو إميل إدّه أو لاحقاً كميل شمعون. الرأسماليّة، في عهد شمعون، خصوصاً مع فؤاد شهاب، جعلت تتوسّع نحو الأطراف، حاملة طرقها ومدارسها وكهرباءها. وإذ تنامى التسليم الإسلامي بلبنان وانكمش المطلب الوحدوي إلى مطلب «المشاركة»، لاقاهم المسيحيّون بالإصرار على علاقات عربيّة قويّة، أقلّه حرصاً على اقتصاد الوساطة والخدمات. شمعون، أبرز زعماء تلك الحقبة، كان «عروبيّاً» بالمعنى الذي كانه شكري القوّتلي أو نوري السعيد. أمّا حيال إسرائيل، فتبنّت صيغة «الهدنة» و«المقاطعة» الموقف العربي الذي يصون الحدود اللبنانيّة. «العرب» لم يكونوا حينذاك معنى مضادّاً لـ«الغرب».
والداخل بدا على العموم معقولاً. في 1952 نشبت «ثورة بيضاء» أظهرت الاحتمالات الخصبة للتغيير السلميّ. وفي الحرّيّات والاقتصاد والتعليم، تقدّم لبنان أشواطاً على جوار يحكمه العسكر.
رياح السموم هبّت، من السويس، في 1956: إنّه التهديد الناصري وحرب 1958 الأهليّة بعد أشهر قليلة على وحدة مصر وسوريّا. شمعون كان زوّر انتخابات 1957 كي يجدّد لشخصه ونهجه، وبدا أنّ شيئاً أساسياً في التعاقد الوطني قد انكسر. ذاك أنّ العروبة لم تعد ثقافيّة بل صارت سياسيّة، ولم تعد عنصراً لتوطيد الدول بل باتت أداة لتصديعها. هكذا غلب شعورٌ بالحصار عزّزه لجوء مسيحيين من مصر وسوريّا والعراق، وانتقال رساميل لمسيحيين وغير مسيحيين هربوا من التأميمات.
الصورة كما ارتسمت للبنانيين كثيرين كانت صورة للحرية مقابل السجن، مستلهمة حال أوروبا الديمقراطيّة حيال «الستار الحديديّ». المثقّفون السوريّون الذين عارضوا الناصريّة والعروبة العسكريّة، أو آثروا التجريب في الكتابة واللغة، أو الخروج على المألوف والمقدّس، كانت بيروت وجهتهم. وفي 1963 كان «التقدّمي الاشتراكيّ» كمال جنبلاط، كوزير للداخليّة، مَن منع رقصة «التويست» لـ«خلاعتها»، وطرد المطرب الفرنسي جوني هاليداي.
مع هذا، لم تستنفد المسيحيّة اللبنانيّة المرضوضة أدوات تكيّفها مع الحقبة القوميّة العسكريّة. هكذا كانت المقايضة الشهابيّة: نقلّم الحرية لنحظى بالاستقرار. وإذ سقطت الناصريّة في 1967 خرج المكبوت المسيحيّ، مدفوعاً بالفعل وردّ الفعل، بأسوأ مما حصل في تزوير انتخابات 1957: تعبئة طائفيّة في انتخابات 1968، ثمّ استدراج العمق الريفي إلى الرئاسة ممثّلاً بسليمان فرنجيّة. والحال أنّ الطوائف بذاتها تنتج الرديء كقاعدة، والمفيد كاستثناء. وكي تنفّذ هذه المهمّة الأخيرة ينبغي أن تكون واثقة بنفسها وبالعالم المحيط. هذا بات عملة صعبة في 1970.
الضربة التي لا قيامة بعدها كانت التسلّح الواسع الذي انفجر في 1973 حرباً صغرى مهّدت لحرب 1975، القيادة صارت للمحاربين وللأرياف. بشير الجميّل، كقائد ميليشيا، قضى على آخر احتمال لتحوّل «الكتائب» حزباً مسيحيّاً ديمقراطيّاً. وجهٌ كريمون إدّه، عدوّ العنف الذي يضع «الندى في موضع السيف»، بات مستحيل التكرار. حرب الجبل جاءت كارثيّة بكسرها العمود الفقري للمسيحيين، وللبنان أيضاً. حروبهم فيما بينهم، وتوطّد نظام الوصاية السورية، وهجرة شبّانهم وتعاظم الاختلال الديموغرافي لغير صالحهم، كلّها عزّزت الشعور بالحصار حتّى صار هذائيّاً. «المؤامرة» أطبقت ووزّعت قادتهم بين السجون والمنافي: للضبّاط السوريين السلطة. لرفيق الحريري الاقتصاد. لـ«حزب الله» الحرب والسلم. لنا الله!
الانسحاب السوري لم يحلّ المشكلة: نشأ التحالف الرباعي في 2006، وراح «14 آذار» يتداعى. وما بين شعور بفقدان البلد و«استعادة» جلفة له، صعدت العونيّة معبّرة عن القيم الأكثر محافظة، والوطنيّة الأكثر قوميّة وشكليّة فيما تضخّم جيبها العنصريّ. عنف بشّار الأسد وما أدّى إليه من لجوء سوري كثيف، و«داعش» وأهوال مسيحيي المنطقة، ترافقت مع ازدهار الشعبويّة في العالم بوصفها أملاً للمحبَطين. الغرب، وهو «النموذج الحضاريّ»، بات من مسارح الازدهار هذا.
تردّي المنطقة على أصعدة أخرى فعل فعله أيضاً. بيروت هاجت لأنّ برنامجاً تلفزيونيّاً قلّد حسن نصر الله، وهو ما تكرّر في 2013، والمسيحيّون الذين كانوا تقليديّاً يتجاوزون قليلاً على «المعتقدات» كما يغضبون قليلاً لأجلها، صاروا، هم أيضاً، يغضبون كثيراً.
وفي هذا كلّه، كان عبد الناصر وحافظ الأسد وياسر عرفات والخميني وأبو بكر ناجي شركاء لجبران باسيل وعبدو أبو كسم. هذا ما لا يُرى دائماً بوضوح كافٍ.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صعود المسيحية السياسية في لبنان وهبوطها صعود المسيحية السياسية في لبنان وهبوطها



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon