توقيت القاهرة المحلي 08:59:27 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مسألتان تجاهلتهما ثقافتنا السياسية: العنصرية والوطنية

  مصر اليوم -

مسألتان تجاهلتهما ثقافتنا السياسية العنصرية والوطنية

بقلم: حازم صاغية

في الفكر السياسي للمشرق العربي، ما بين نهاية الحرب العالميّة الثانية ونهاية الحرب الباردة، فائض من القوميّة وفائض من الإسلام السياسي وفائض، ولو أقلّ فيضاناً، من الاشتراكيّة. هناك في المقابل نقص فادح في الاهتمام بمخاطر العنصرية أو بفضائل الوطنية.
العنصرية لم تُناقَش أصلاً لدينا، ولم تشكّل أي سبب لاهتمام تيّارات الفكر العربي وأحزابه التي وعدت بتغيير الواقع.
«حزب البعث العربي الاشتراكي» الذي حكم سوريّا والعراق، لم يقل كلاماً عنصريّاً صريحاً، بيد أنّه اعتبر الأكراد وأمازيغ المغرب عرباً، شاءوا ذلك أم أبوا، كما عاملهم كملحقين بالعرب لا يستحقّون الاستقلال باسم وهويّة يتميّزون بهما. الأمر لم يقتصر على آراء. لقد أنتج سياسات وإجراءات كحرمان أكراد سوريّا من الجنسيّة وضرب أكراد العراق بالكيماويّ.
حركة القوميين العرب، صاحبة شعار «دمْ حديدْ نارْ- وحدهْ تحرّرْ ثارْ»، لم تُخفِ موقفاً لاساميّاً حادّاً من اليهود. الحزب السوري القومي الاجتماعي أخرج اليهود من أمّته السورية وقضى باستحالة اندماجهم لأنّهم «طفيليّون» تبعاً لجوهر شرّير فيهم. زعيم الحزب أنطون سعادة اعتمد تأويلاً عِرقيّاً وعلمويّاً للعالم تقرّره طبيعة «المزيج السلاليّ» ومُكوّناته المفتَرضة: «الراقية» أو «المنحطّة»، وشكل جماجم البشر.
حتّى الشيوعيّون الذين نمت أحزابهم بين الأقلّيّات الإثنيّة والدينيّة التي تكابد العنصريّة، دمجوا التحرّر منها في صراع طبقي لا يعترف باستقلاليّة ذاك الاضطهاد أو بخصوصيّته.
فكرة المساواة في المواطنيّة التي تجمع المسلمين وغير المسلمين لا يزال الإسلام السياسي يتعارك معها حتّى يومنا هذا. يتقدّم خطوة صغرى ويتراجع خطوتين كبريين.
الحكومات لم تكن بريئة بالطبع: في الإعلام العربي الرسمي وشبه الرسميّ، كما في الإجراءات العقابيّة، غالباً ما يتأدّى عن الخلاف السياسي بين دولتين أخذ الشعوب والجماعات، دون تمييز، بجريرة حكوماتها.
والحال أنّ التوسّع النسبي للاهتمام بالعنصريّة لم يحصل إلاّ مؤخّراً، مع الانفتاح على أفكار ديمقراطيّة وليبراليّة وحقوقيّة، خصوصاً مع صعود آيديولوجيّة حقوق الإنسان «المستوردة».
في المقابل: الوطنيّة لم تحظ باهتمام أكبر. بالطبع هناك الكثير من الكلام، ومعظمه شعري أو إنشائيّ، عن وطنيّة ما قبل الأوطان، أي الولاء والحنين إلى حيث النشأة ومسقط رأس الأب والجَدّ. إنّه «الوطن» الذي «آليتُ ألاّ أبيعه»، والذي «نازعتْني إليه في الخلد نفسي».
لكنّ الوطنيّة لدينا ابتلعتها القوميّة قبل أن تسلّمها جثّة إلى الإسلام السياسيّ. لقد احتلّت «الفكرة»، قوميّة كانت أو إسلاميّة أو يساريّة، موقعاً متقدّماً على البلد والدولة والمجتمع. هكذا اعتبرت السياسة تطبيقاً للفكرة غير المصحوبة بدولة، لا تفاعلاً مع المكان وناسه وشروطهم المحدّدة.
في جذر هذا الموقف أنّ قوميينا، المتأثّرين بالتجربة الألمانيّة، رفضوا أصلاً الأوطان الناشئة كصناعة استعماريّة ونتاج من نتاجات «التجزئة». الإسلاميّون في ولائهم لـ«أمّة الإسلام» ناهضوها أيضاً، وناهضوا معها القوميّة، ونظروا إليهما بكثير من الريبة والعداء كأداتين في تفتيت تلك الأمّة النظريّة.
الشيوعيّون بدورهم لم يعتبروا الوطنيّة شيئاً يستحقّ التفكير فيه: المهمّ لديهم كان الساحة التي نواجه فيها العدوّ الطبقي أو العدوّ «الوطنيّ» الذي يستهدف وطناً غامضاً. ذاك أنّ الوطنيّة تُعرّف سلباً بوصفها، قبل كلّ شيء وبعده: «العداء للإمبرياليّة».
مع الثورة الفلسطينيّة، ساد النظر إلى الأوطان كمحطّات عبور، لا بأس بتعريضها للهدم والدمار، في سبيل الوصول إلى فلسطين. الأردن في 1970 - 71 ولبنان في 1975 - 82 كانا مثالين صارخين. الوطنيّة، وفق هذا التأويل، تعني إذن أن يعادي واحدنا وطنه ويكون على أتمّ الاستعداد لتحويله أرضاً محروقة.
لكنّ هجاء الوطنيّات لم يوزّع بالتساوي. الوطنيّة اللبنانيّة حظيت بحصّة أكبر لأسباب أربعة على الأقلّ: للدور التاريخي الذي لعبه المسيحيّون في تأسيسها، ولصراحتها في إبداء رغبتها في التشبّه بالغرب، ولبرلمانيّتها وما رافقها من حرّيّات إعلاميّة كرهتها الأنظمة العسكريّة المجاورة، وأخيراً، بسبب تعقّلها كأكبر الثمار الناجمة عن «تجزئة سوريّا». هكذا بات دارجاً ومألوفاً أن يُصنّف انتهاك السيادة اللبنانيّة على يد نظام عسكري أو تنظيم مسلّح عملاً قوميّاً للقوميين، وإسلاميّاً للإسلاميين، وتقدمياً للتقدميين. الوطنية اللبنانية هي «الانعزالية» عَدّاً ونقداً.
على العموم لم يتأدّ عن تلك الحقبة التأسيسية الممتدّة على أربعة عقود ونيّف أي وعي صلب، لا للعنصريّة ولا للوطنيّة. لم تتأسس مناعة حيال الأولى ولا تبلورَ إقرار حاسم بالثانية. هذان الفُقدانان ندفع أكلافهما اليوم في أمكنة كثيرة، لكنْ خصوصاً في لبنان، حيث يفجّر بعضُ من مُعست وطنيّتُهم عنصريّتَهم حيال النازحين السوريين والفلسطينيين.
لقد كان في وسع الإشباع الوطني أن يحدّ من الاحتقان ومن التعويض بالهستيريا العنصريّة. وكان في وسع التنبّه إلى العنصريّة أن يؤنسن الوطنيّة ويربطها برحابة أمميّة. و«قليل من الأمميّة»، كما رأى كبير الاشتراكيين الفرنسيين جان جوريس: «يُبعدنا عن الوطن، فيما كثير منها يعيدنا إليه».
لا الإشباع الوطني حصل ولا أنْسنة الوطنيّة.
بين هذين الفُقدانين الكبيرين نشأت علاقة حكمَها مبدأ المرآة: كلٌّ منهما يعكس للآخر صورة تماثلُ ذاته الفقيرة والمُخيفة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسألتان تجاهلتهما ثقافتنا السياسية العنصرية والوطنية مسألتان تجاهلتهما ثقافتنا السياسية العنصرية والوطنية



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon