توقيت القاهرة المحلي 07:53:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«رأس السنة» في إدلب!

  مصر اليوم -

«رأس السنة» في إدلب

بقلم: حازم صاغية

منذ أربع سنوات لا يمرّ «رأس السنة الجديدة» على إدلب السورية. هناك لا تتغيّر السنوات. «الرأس» لا يتميّز عن سواه من مفاصل الزمن، وليس من «عيد» يميّز يوم إدلب عن سواه في الأيّام. الجديد هو القديم مُضاعفاً. «نعم، لقد سبق أن رأينا ذلك قبلاً، لكنّه اليوم أفظع»: هذه هي الحكمة هناك وهذا هو الاكتشاف الأوحد. إنّ تكرار المقتلة المقرونة بالخديعة والتجاهل هو سيّد الأشكال والمعاني، وهو تاج الأزمنة.
مليونان ونصف مليون إنسان في محافظة إدلب، يتعرّضون لما يقارب الإبادة. يحصل هذا بالتقسيط، ويحصل مرّة بعد مرّة، لكنّ دلالته الرمزيّة ذات طاقة باهرة: فالذين يموتون والذين أعارَهم الموت مؤقّتاً للجوع والنزوح والصقيع ينتمون إلى عموم سوريّا. إذن، في إدلب يُقتل السوريّون كلّهم، ولا فضل لضيف على مضيف. لقد دُفعوا، على مرّ السنوات القليلة الماضية، إلى تلك المحافظة الشماليّة، كي لا يموتوا ولا يجوعوا ولا يُنتهكوا. ما فاتَهم هو أنّهم سوف يُستخدمون لتسمين الطريدة، وبأجسادهم سوف تُختَصر المهمّات الكثيرة إلى مهمّة واحدة يحبّها عادة بيروقراطيّون يستعجلون التنفيذ.
وهذا الذي يحصل إنّما يحصل تحت بصر العالم وسمعه، وتحت بصرنا وسمعنا أيضاً. صحيحٌ أنّ أجزاء الكون قصّرت المسافات فيما بينها وتقاربت، إلاّ أنّ إدلب وحدها نُفيت إلى البعيد، بعيداً عن أجسامنا وعن حساسياتنا معاً. فهي وحدها تُترك للحجج السياسيّة العارية التي يردّدها تقنيّو الموت «الواقعيّون»: ألم يحن وقت التخلّص من الإرهاب و«النصرة»؟ ألم يحن الوقت كي يمدّ بشّار الأسد سلطته الوطنيّة على كامل التراب السوريّ؟ وطبعاً، أليس من العدل، بل التقدّميّة، أن يحظى الحليفان، فلاديمير بوتين وعلي خامنئي، بالمواقع المؤثّرة في مواجهة دونالد ترمب؟
المرضى في إدلب تُقصف مشافيهم. التلاميذ تُقصف مدارسهم. الأفراد والعائلات تُدمّر بيوتهم. الهاربون من الموت الذين ينزحون هائمين لا يحملون معهم إلاّ القليل من أشياء متداعية هي جنى أعمار الفقراء. وهل يجني الفقراء إلاّ الخردة التي تنكسر في الطريق فتعجز عن إكمال المسيرة؟ القصف يطارد حركتهم في البرّ، والطائرات والبراميل، الروسيّة والسورية، تمارس هوايتها في الاصطياد من الجوّ. والعالم؟ منذ اندلاع الثورة السورية حتّى الآن مارست روسيا حقّ الفيتو 14 مرّة في مجلس الأمن، بعضها وآخرها لمنع الإغاثة عن إدلب.
الفارّون بمئات آلافهم نحو شمال الشمال تواجههم بوّابة تركيّة موصدة. رجب طيّب إردوغان لا يهمّه من «الإخوة» العرب إلاّ ما يفاوض به لسحق «الإخوة» الكرد. ولاستكمال «نبع السلام»، يُترك لـ«الساحة الليبيّة» أن تقرّر مصير «الساحة السورية» خفضاً للتصعيد أو تصعيداً للتصعيد، هدناتٍ يعقبها قتال أو قتالاً تعقبه هدنات! وفي هذه الغضون، لا بأس بابتزاز الأوروبيين عبر التلويح باللاجئين: إنّ البرابرة على الأبواب.
هذه المرّة، كانت البداية في معرّة النعمان، جنوب شرقي المحافظة. أهلها كانوا البادئين بالنزوح لأنّ الهجوم بدأ بهم. حين وصلتهم دعوة «العودة إلى حضن الوطن» كانوا مائة ألف. الآن هم آلاف قليلة. الصحافي السوري أحمد الأحمد ينقل عن «سهام»، وهي صحافيّة عاشت حتّى الأمس القريب في معرّة النعمان: «إن النزوح بات يمثّل رفاهية بالنسبة إلى المدنيين هناك، فمن يستطيع النزوح ولديه مركبة لنقل عائلته يُعتبر شخصاً محظوظاً». وتمضي سهام: «هناك عائلات ما زالت تسعى بكل جهدها للخروج لكنّها لم تتمكّن من ذلك، بسبب عدم توفّر وسائل نقلٍ وخوف أصحاب السيارات الخاصة من العودة والدخول إلى المدينة التي باتت شبه مدمّرة».
وفي استعادة لتجارب سابقة في اللعب الدموي بالبشر، يلاحظ الكاتب السوري بكر صدقي «أن شرقي حلب أو الغوطة الشرقية، على سبيل المثال، لم تشهدا عودة للنازحين عنها إلا بنسب منخفضة جداً، وذلك بفعل التضييق الذي تمارسه أجهزة النظام على عمليات العودة، إضافة إلى عدم رغبة النازحين في العودة إلى جحيم (الوطن الأسدي). قد يكون البديل عن السكان الأصليين لتلك المناطق المدمرة سكاناً جدداً تنطبق عليهم مواصفات (التجانس) المطلوبة بمعانيها السياسية والأهلية والمذهبية، لكن إمكانية تطبيق ذلك تتوقف على إعادة تأهيل تلك المناطق لتكون صالحة للحياة، وهو ما يتطلب موارد كبيرة تعجز عنها إمكانات النظام المختنق في أزمته، وكذا بالنسبة لإمكانات حليفيه الروسي والإيراني». ومن يدري، فقد تسفر أطوار جيولوجيّة مقبلة يصنعها بشر أشرار عمّا قصّرت عنه أفعال الطبيعة. قد يُنقل مثلاً أطنان من العرب إلى حيث يعيش أطنان من الكرد، فنتسلّى كثيراً بمشهد أوزان تتقاتل، أوزانٍ تُحسب بالأرقام الباردة التي هجرتها الأسماء والملامح.
إنّ إدلب اليوم إعلان عن استحالة الأوطان واستحالة الشعوب، لكنّها أيضاً، قبل هذا وبعده، مرادف لعجز الأخلاق وتبلّد النفوس واليأس من كلّ شيء، كلّ شيء تقريباً. مع هذه المقتلة، يغدو كلّ واحد منّا أقصر طولاً وأضعف صوتاً وأقلّ إقبالاً على عالم يحتفل برأس السنة الجديدة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«رأس السنة» في إدلب «رأس السنة» في إدلب



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon