توقيت القاهرة المحلي 08:53:10 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن ثوريين يكرهون الثورات...

  مصر اليوم -

عن ثوريين يكرهون الثورات

بقلم: حازم صاغية

مع مظاهراتِ العراق ارتفعت أصواتُ ممانِعة تستدرك وتحذِّر. ثمة من يتحدث عن وجود «أصابع أميركية» تقف وراء المظاهرات، وثمة من نبَّه إلى «أجندات خفية» تحركها، وبالطبع استُنجد بـ«المتسللين» المزعومين من أهل «الطابور الخامس».
الموقف هذا ذكر بعض المراقبين بموقف الأصوات نفسها من الثورة السورية: في بداياتها الأولى، خجلٌ وارتباك مصحوبان بدعوة النظام إلى الإصلاح. ذاك أن الإصلاح، بغض النظر عن مضمونه ووجهته، يقوي النظام ويهدئ الاحتجاج. لكنْ، ومن دون أن يبادر الأسد إلى أي إصلاح جدي، تصاعدت وتيرة نقد الثورة الذي صار نقضاً: تشكيكٌ فاتهامٌ فتخوينٌ فدعمٌ للتدخل المسلح ضدها وتحريض عليه.
إلى الذاكرة القريبة حضرت أيضاً صفة «ثورة الناتو» في وصف الثورة الليبية، وهناك مَن عاد سنتين أخريين إلى الوراء ليسترجع «الثورة الخضراء» في إيران عام 2009 التي وصفها الممانعون أنفسهم بالمؤامرة على شعب إيران.
نضع جانباً الخمينيين في تنويعاتهم الكثيرة، وبعض القوميين العرب والبعثيين، ممن هم امتداد طبيعي للنظامين الإيراني والسوري. نضع جانباً أيضاً الانتهازيين والوصوليين على أنواعهم ممن يعرفون أين تكمن مصالحهم وكيف يخدمونها على الوجه الأحسن. نتوقف، هنا، عند مَن ينسبون أنفسهم إلى «يسار ثوري» ما، يسارٍ يزعم تغيير العالم ولا يقف إلا معارضاً لكل تغيير.
هؤلاء، على قلتهم النسبية، شكلوا ويشكلون الصوت الأعلى في تنظير الممانعة وفي تزويدها بحجج من صنفين: صنف يجوب العالم كي يؤكدَ صحة موقعه «الاستراتيجي» إلى جانب فلاديمير بوتين والراحل شافيز، وصنف يُبحر في التجارب السابقة ليكتشف أن موقفه إنما يقيم في خط التاريخ الصاعد أبداً.
لكنْ بالنتيجة، هناك شيء واحد اختلف: لقد باتت الثورات، المعشوقة دوماً، والتي منحت الثوريين اسمهم، شيئاً كريهاً ومُستقبَحاً. إنهم، وللغرابة، صاروا ثوريين مناهضين للثورات!
ذاك أن الأخيرة، وفق تعريف غريب يختصون به، ليست طلباً للحرية والكرامة والخبز. إنها، قبل أي شيء آخر، اصطفاف في الصراعات الدولية يضع البلدان المعنية في مواجهة أميركا.
إن بعض من درسوا تحول الاتحاد السوفياتي من بلد الثورة إلى بلد المحافظة المناهضة للثورة لاحظوا دور هذا التغليب للعناصر الجيوبوليتيكية والاستراتيجية وراء ذلك. لكنهم لاحظوا أيضاً الدور الثقافي المترتب على ذاك التغليب. ذاك أن العداء للغرب لا يلبث أن يفيض عن السياسة إلى الثقافة والأفكار وطريقة الحياة.
عندنا، وكمُصغر هزيل لذاك التأويل الأعوج، الذي هو في أحسن حالاته بالغ الجزئية، يستند التحول إلى مرارات ثلاث: مرارة مفادها انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه والعجز عن تعويض الفقيد، ومرارة أخرى مؤداها تغير معنى الثورات الذي بدأ قبل ثلاثة عقود. فهناك في أوروبا الوسطى والشرقية، حين سقطت دزينة من الأنظمة، لم تعتمد الثورة العنف، ولا قادها مكتب سياسي على رأسه زعيم، ولا دعت إلى تدمير طبقة بعينها، فيما اختارت هدفاً لها الديمقراطية والتصالح مع الغرب ونموذجه (وبالمناسبة، وعلى عكس زعم ثوري رائج، يصعب أن يدعي المرء الديمقراطية إلى هذا الحد فيما يكون معادياً لمهد الديمقراطية إلى هذا الحد).
إلى ذلك، دفعت في هذا الاتجاه مرارة ثالثة محلية المصدر: إن الثورات لم تعد تُقر الطريقة القديمة في إدارة النزاع مع إسرائيل. ذاك أن النهج المذكور يُلحق قضايا الأوطان جميعها بتلك القضية الواحدة. هكذا يصار إلى تجويف المجتمعات وقهرها وإفقارها وتحكيم المستبدين بها بذريعة القتال ضد الدولة العبرية. في المقابل، تستحضر الثورات بمجرد قيامها تعددية تكسر الاحتكار الأحادي لـ«الثورة»، وتهجس بتعزيز المجتمعات العربية وحرياتها. بهذا، أي بتقوية تلك المجتمعات، يقوى الموقع التفاوضي العربي مقابل إسرائيل، وترتفع جاذبية العالم العربي في العالم.
مع الثورة الواحدة يتحكم نظام أو نظامان في حياة الملايين، ومع الثورات الكثيرة تتحرر حياة الملايين من تحكم النظام أو النظامين.
تلك المرارات في مجموعها تنمُّ عن رغبة عميقة في استعادة عالم الحرب الباردة ومعادلاتها. هنا تصحُّ النظرية التي تقول إن الثورية لون من المحافظة المتطرفة التي تريد العودة إلى «ما كان»، أو ما قيل إنه «كان». ما يضاعف هذا الميل العميق جرعة قومية قوية في مُجمع الأفكار الثورية العربية، جرعة ترسم الطريق إلى المستقبل بوصفها طريقاً إلى «الأصالة» و«الجذور»، وحنيناً إلى ما قبل الغرب وما قبل وفادته إلى منطقتنا. من هذه الطينة أيضاً قُدت ثورة إيران الدينية، التي ناوأت حريات النساء والإصلاحات الزراعية، ومن هذه الماضوية إياها غرف ثوريون علمانيون ما لبثوا أن رأوا في ثورة الخميني، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ما يسدُّ مسدَّه.
لكن أهم الأسباب التي تدفع أولئك الثوريين إلى الوقوف ضد الثورات أنهم أصبحوا جزءاً، ولو ثانوياً، من سلطة الأمر الواقع. إنهم الحاشية الضرورية لمنظومة الحكم التي يتربع في قمتها الولي الفقيه فيما ينتفض في وجهها شبان العراق بعدما انتفضت أكثرية الشعب السوري.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن ثوريين يكرهون الثورات عن ثوريين يكرهون الثورات



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon