توقيت القاهرة المحلي 07:48:38 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«الموت لأميركا»: سيرة شعار (1979 – 2020)

  مصر اليوم -

«الموت لأميركا» سيرة شعار 1979 – 2020

بقلم: حازم صاغية

مع مقتل قاسم سليماني عاد شعار «الموت لأميركا» إلى الواجهة. عشرات آلاف الحناجر في العراق وإيران صرخت به بقوّة وإصرار. هذا الشعار – الهتاف، الذي ظلّ لسنوات يتأرجح بين توسّع «استراتيجيّ» وانكماش «تكتيكيّ»، ذو تاريخ خصب: لقد ألّفته ثورة الخميني عام 1979، وتحديداً عند استيلائها على سفارة واشنطن في عاصمتها. يومذاك بدا الاستيلاء نصراً مؤزّراً: إنّه إذلال «المُستضعَف» لـ«المُستكبِر». إنّه إهانة من لا يُهان.
وكما في الأساطير، انتصبت الولادة مقابل الموت. لقد وُلدت الثورة فليمتْ أعداؤها. وهي، بالفعل، كانت أيّاماً مجيدة لثنائيّة الموت والولادة. «الفجر الجديد» الطالع يطوي ليل الظلمات والظلامات. «وجهك يا غرب مات»، كما كتب أدونيس.
بعض أهل «الشرق» وجدوا ما يُشبع رغبتهم في الانتقال من مُهان سُمّي «رجلاً مريضاً» يحتضر إلى مُهين ينتقم. في 1904 تفاخروا بانتصار اليابان «الآسيويّة» على روسيا «الأوروبيّة». أصداء عبارات كـ«ريح الشرق تهزم ريح الغرب» الماويّة، و«ارفع رأسك يا أخي» الناصريّة، كانت لا تزال تطنّ في الرؤوس.
الخميني بدا يومذاك كمن يتطوّع لتحقيق أحلامنا: في ظلّه سنرتقي من انقساماتنا إلى «وحدة إسلاميَّة» ناجزة، وبقيادته سوف نصلِّي في القدس، وفي الطريق نحرّر فلسطين. وفي النهاية، فالذي يهين أميركا لا يقف شيء في وجهه. أمّا النموذج نفسه فكانت جِدّته حصانة له. إنّه لم يُجرّب قبلاً، وبالتالي فكلّ حجّة ضدّه تجنٍّ عليه.
لكنّ اهتزاز حجر واحد كان في وسعه هزّ البناء المتناسق والمتماسك. والأحجار التي اهتزّت كانت كثيرة. ما بين الحرب مع العراق في 1980 واتفاقيّة أوسلو في 1993 خرج ملايين العرب، وفي عدادهم بالطبع فلسطينيّون، من نفق ثنائيّة الخير الإيراني المطلق والشرّ الأميركي المطلق. بين هذين التاريخين، لجأت طهران عام 1983 إلى الانتحاريين، لا إلى «الأمواج البشريّة»، كي تقتل أميركيين في بيروت. «فضيحة إيران غيت» وسّعت مساحات الشكّ بطهارة الأئمة القُمّيين، وحين انهارت الكتلة السوفياتيّة تأكّد لكثيرين أنّ الموت يصطاد أعداء أميركا. ولئن تجدّدت شيطنة الأخيرة مع حرب العراق عام 2003، فهذا لم يُفض إلى تأليه إيران التي عوملت كشريك مُقنّع في الجريمة. ثمّ في 2005 بدأت أكثريّة لبنانيّة ترى في طموحات طهران ما يكمّل طموحات تلّ أبيب، وهو ما تعزّز باجتياح بيروت عام 2008. في هذه الغضون، قلّلت «الانتفاضة الخضراء» في 2009 الحماسة القليلة أصلاً لنموذج لا يعمل. أمّا في سوريّا بعد ثورتها، فتبدّى حكّام إيران على هيئة جلاّدين. بعض السوريين رأوا فيهم استعماراً استيطانيّاً لم يعهدوا مثله من قبل.
والحال أنّ الثورات العربيّة كلّها أضعفت صوت الآيديولوجيا حيال الولايات المتّحدة، وأطلقت صوت المصالح الوطنيّة: هناك مواقف أميركيّة تستدعي النقد وأخرى تستدعي التثمين. الحسبة لم تعد بالجملة. صارت بالمفرّق.
من جهة أخرى، كان للتمدّد الإيراني في العراق، بعد سقوط النظامين الصدّامي والطالباني على يد أميركا، أن بدّد ما تبقّى من صورة العداء الإطلاقي كما نشرتها الخمينيّة. التعايش اللاحق في بلاد الرافدين، والذي لم يتعرّض إلاّ اليوم للتحدِّي الجدِّيِّ، أكّد أنَّ النقيضين ليسا دائماً نقيضين.
في مكان آخر، في الثقافة، توازنت قوّة إيران وضعفها. قوّتها استمدّتها من رِيادتها زمنَ الهويّات، وإحلالها النقد الثقافي للغرب كـ«غازٍ حضاريّ» محلّ نقده الاقتصادي كـ«إمبرياليّ». لكنّ الوجه الآخر لصعود المسألة الثقافيّة لم يعمل لصالحها: إنّه عولمة الشبيبة فيها كما في سواها، وفيها أكثر مما في سواها. صحيحٌ أنَّ مفاهيم الشبيبة والأجيال ليست عابرة للطبقات والمناطق والإثنيّات، إلاّ أنَّ الرأي العامّ الشبابي الذي يتشكّل في المدن الكبرى ويعممه الإعلام بدا شديد العداء للنظام الكالح. وبعدما انحصرت الحماسة للأخير في شبّان من لون مذهبي محدّد، دون أن يُستهان بعددهم الذي تُظهره شوارع إيران اليوم، بدأت الحماسة تفتر في العراق، بل داخل إيران نفسها أيضاً. ولأنّ السياسة لم تعد تختزل الوجود الاجتماعي كلّه، أمكن لرفض الشبيبة سياسات أميركا ورئيسها أن يترافق مع إعجابها ببلد الرئيس المكروه. فأميركا هي أيضاً الموسيقى والصورة والموضة والجامعة والمستشفى وأشياء أخرى كثيرة ينبغي ألاّ تموت. وبدورها فشلت الآيديولوجيا الحاكمة في طهران حيث نجحت مثيلات لها، فلم تنمُ على هامشها صناعة استهلاكيّة للأيقونات قابلة للرواج خارج بيئتها المذهبيّة. لقد ظلّت جسداً جامداً عصيّاً على السوق ومنيعاً على الصورة والحركة. وكان ما كرّس هذا الافتقار عقدة العيش في المتراس وضعف القدرات الماليّة، خصوصاً بعد العقوبات.
أمّا إسرائيل فبالطبع لا تزال إشكالاً كبيراً عالقاً مع أميركا، لكنّه لم يعد كافياً لطلب الموت لأميركا ولا لطلب الحياة لإيران. فوق هذا، فدعوات طهران، بتكراريّتها وعنفيّتها، باتت تصطدم بالحساسيات الشبابيّة الراهنة في سلميّتها وبَرَمها بالتكرار وطلبها الجديد وإلحاحها على سرعته. ومُضجرٌ جدّاً ذلك الخطاب البليد عن أميركا بوصفها قاتلة الهنود الحمر ومدمّرة فيتنام. وحدهم، يتامى الوعي الذي تساقط في العقود الماضية، ممن لا يضجرون من شعارات عنفيّة ردّدوها لثمانين عاماً، ظلّت تفتنهم إيران. هؤلاء، للأسف، هم الذين يموتون اليوم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الموت لأميركا» سيرة شعار 1979 – 2020 «الموت لأميركا» سيرة شعار 1979 – 2020



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon