بقلم: حازم صاغية
غير مسبوق في تاريخ لبنان الحديث أن تغصَّ الشوارع بنصف عدد السكّان من كلِّ الطوائف والمناطق. أن تكونَ قضيّة واحدة، هي الفقر والعوز وانعدام الأفق، قضيَّتهم الوحيدة. مشاريع الطوائف، ومثلها المشاريع الإيديولوجيّة التي تطالب عقول الناس بالانفصال عن شروط حياتهم، تراجعت خطوتين من دون أن يتراجع شعورها بالمضض. بعض القوى القديمة قالت إنّها تؤيّد الانتفاضة ولكنْ... بعضها أصمّت الآذان عن الشتائم التي كيلت لرموزها... بعضها تظاهر بالتأييد وفكّرت بتزييت البنادق. أحدٌ ممّن هم «ضدّ» الانتفاضة لم يقل إنّه ضدّ. إنّه إجماع آخر على الكذب.
هذا غير مسبوق، وهو كذلك لأنّ حدّة الأزمة غير مسبوقة، وتفاهة الحكّام وفسادهم غير مسبوقين أيضاً. اللبنانيّون قالوا عنهم في العلن ما كانوا يقولونه في الغرف. وهم لم يميّزوا بين واحدهم والآخر، وإن وزّعوا اتّهاماتهم لهم بتفاوت يعكس التفاوت في المسؤوليّة. هكذا حالوا دون إعادة تدوير قضيّتهم في التنافس المعهود بين الأجنحة الطائفيّة للنظام. إنّه جهرٌ بالحقيقة في مقابل جهرهم بالكذب.
أصحاب الانتصارات العظمى السابقة، سمَّيناها أمجاد المقاومة أم أمجاد «الحكم القويّ»، لم تتكشّف انتصاراتهم عن مكاسب فعليّة لمن صدّقوها. على العكس تماماً، تحوّلت إلى أسباب محفّزة للكارثة الاقتصاديّة – الاجتماعيّة.
في المقابل، فإنّ أصحاب الهزائم من بقايا الـ14 آذاريّين لمسوا، مرّةً بعد مرّة، أنّ معادلات النظام الطائفيّ في شكله الراهن ستُبقيهم مهزومين إلى ما لا نهاية. إنّ انتصارهم ممنوع في ظلّ السلاح. هذا فضلاً عن أنّ قادتهم لم يُقنعوهم مرّةً بأنّهم، فيما خصّ المسائل الاجتماعيّة، مختلفون عن منافسيهم.
إذاً، هناك منتصر لم يعد في وسعه أن ينتصر أكثر، وهناك مهزوم لم يعد يستطيع أن يُهزم أكثر. لكنّ الاثنين اللذين ضمّهما نظام واحد جمع بينهما موقف واحد ممّن طردهم النظام خارج جنّته.
أمّا الأجيال الأصغر سنّاً فلم تعرف أصلاً تلك الانتصارات المزعومة. تحرير 2000 وتحرير 2005 ومأساة 2006 التي جُعلت ملحمة، كانت خدعة للآباء وحدهم. بدورها، فـ«الرئاسة القويّة» كانت تستدعي منهم، كي يحملوها على محمل الجدّ، أن يكونوا أطفالاً.
هذه الخيبة العامّة بالنظام، وقد دفعه «العهد القويّ» إلى أسفل دركاته، ولّدت الاستثناء اللبنانيّ العظيم. ربّما لم يغادر الكثيرون وعيهم الطائفيّ، وهو ما لا يحصل هكذا بغتةً، إلاّ أنّهم أزاحوه جانباً. لقد أتاحوا للإنسان الاقتصاديّ فيهم أن يظهر وأن يقضم شيئا من الإنسان الطائفيّ الذي فيهم. هكذا وجدوا أنفسهم يتّحدون وينقسمون على قاعدة مصالحهم. إنّهم، بفعلهم هذا، احتفلوا بإعادة اكتشاف أنفسهم كمواطنين وكسياسيّين، وبأنّ لواحدهم امتداده في طوائف ومناطق أخرى. لقد خرجوا من تعليبهم الطائفيّ الذي لا يلحق بهم إلاّ الشلل والعطالة ويجعلهم بشراً جزئيّين.
وقد يكون من المبالغة القول إنّنا شهدنا إعادة تأسيس للبنان آخر. لكنّها بالتأكيد محاولة جدّيّة لإعادة تأسيس تحصل في الشارع. في الضوء. في العلن الصاخب. محاولةٌ لم يحل الغضب الذي فيها دون كثرة الألوان الزاهية، ولا حالَ قرفها من الوطنيّات السقيمة دون اكتفائها برفع العلم اللبنانيّ. المرأة والفتاة حضرتا بقوّة فيها، والعنف – باستثناء الرسميّ منه – غاب عنها بقوّة، فاقتصر على اللفظيّ منه الذي طهّر النفس ممّا كُبتت طويلاً عليه. لقد غنّوا ورقصوا وأحبّوا فيما هم يثورون.
في خانة أخرى تقيم النتائج الأخيرة، أي الهزائم والانتصارات. والحال أنّ وضعاً طائفيّاً في صلابة الوضع اللبنانيّ ليس من النوع الذي يستسلم بسهولة، أو يُهزم بضربة قاضية. إنّه يتحايل ويناور ويتظاهر، لكنّ الانقضاض على الحركة الشعبيّة هو ما يملك عليه وعيه. تكفي ورقة «إصلاحيّة» هزيلة كالتي قدّمها سعد الحريري لكي تتحرّك أذرع حزب الله الخفيّة تمويهاً للموضوع الفعليّ عبر التذكير بالصراع مع إسرائيل أو افتعال إحراق الأعلام. هكذا نتأكّد من أنّ لا جديداً تحت الشمس. أمّا في البيئة العونيّة فتتعالى الأصوات مطالبةً الجيش بالتدخّل الحاسم، بذريعة فتح الطرقات المغلقة. إذاً ثلاثيّة حزب الله الشهيرة: «شعب وجيش ومقاومة» تترجم نفسها جيشاً ومقاومة ضدّ الشعب.
ما يحضّ الجماعة الحاكمة على التحرّك عنصر آخر: أنّ طرفيها الأساسيّين كيانان مأزومان. الحضور الكثيف للطائفة الشيعيّة في الانتفاضة يقول إنّ قاعدة الحزب في مكان آخر. أما العونيّة فأغلب الظنّ أنّ استحواذها على السلطة قد تهاوى بتهاوي صورة جبران باسيل الذي أجمع اللبنانيّون على أنّه المكروه الأوّل في جمهوريّتهم.
وهناك بالطبع الثورة المضادّة في سوريّا خصوصاً، وفي عموم العالم العربيّ. هذا ما يرفع كلفة الرهان إذ يُستبعَد أن تزدهر الجزيرة فيما المحيط قاحل وخانق.
في هذه الغضون، لا مفرّ من البقاء في الساحة. في الشارع. والأهمّ على المدى الأبعد، البناء على هذه اللحظة للمستقبل. البناء الذي يستدعي التنظيم ونشر الأفكار وسط شعب أظهر استعداده للتغيير. إنّها خطوة أولى، لكنّها خطوة كبيرة جدّاً. إغراقها بالدم لن يوقف المسيرة التي انطلقت كي تعيد تأسيس الوطن.