توقيت القاهرة المحلي 09:30:41 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أوروبا: الحرب تهزم التعدّد...

  مصر اليوم -

أوروبا الحرب تهزم التعدّد

بقلم: حازم صاغية

«في بريطانيا كلّ شيء مسموح إلاّ ما كان ممنوعاً، وفي ألمانيا كلّ شيء ممنوع إلاّ ما كان مسموحاً، وفي فرنسا كلّ شيء مسموح ولو كان ممنوعاً، وفي روسيا كلّ شيء ممنوع ولو كان مسموحاً».
العبارة نُسبت إلى ونستون تشرشل وإلى الفيلسوف والمؤرّخ البولندي ليشيك كولاكوفسكي، وكالعادة ردّها البعض إلى أوسكار وايلد، شيخ المأثورات. ضياع القائل لم يُضع معنى القول. فأوروبا، باستثناء روسيا السوفياتيّة ثمّ البوتينيّة، أوروبات. وحين نشأت فكرة الوحدة احتفظتْ بخصائص المُكوّنات، كما أناط المشروع بشعوبها أمر اتّحادها الذي لم يزعم لنفسه صفة القداسة، ولا قال إنه تنفيذ لمشيئة متعالية. إنّه خاضع لإرادة الشعوب، تكرّسه أو تَفكّه في تعاقد مصحوب دائماً بإعادة النظر.
الفرنسيّون رأوه اتّحاد قيم. البريطانيّون رأوه اتّحاد سوق. وفي الأحوال كافّة، التقت أنظمة جمهوريّة وملكيّة، اتّحاديّة ووحدويّة، مركزيّة ولا مركزيّة، تجمعها الديمقراطيّة التمثيليّة كنظام برلمانيّ، وتعدّد حزبيّ، ودولة قانون، واستقلال للمجتمع المدني والسلطات المحلّيّة. ومع أنّ التشكّل البطيء بدأ في 1951، مع اتفاقيّة باريس للفحم والفولاذ، فالقابلة الأهمّ للوليد الجديد كانت اتفاقيّة ماستريخت عام 1992: لقد انتهت الحرب الباردة فأقلعت أوروبا وانضمّت إليها دول كانت مسجونة في الكتلة السوفياتيّة. «التوسّع»، هذه المرّة، بات طوعيّاً، بإرادة الشعوب وقوّة النموذج.
وفضلاً عن المصالح المشتركة، أقام في خلفيّة تلك المسيرة أنّ أوروبا قارّة الطبيعتين:
هي قارّة الصراع: في القرن العشرين وحده، وبين 1914 و1945، مات مائة مليون قتلاً وجوعاً. فإلى الحربين العالميتين و«الهولوكوست»، هناك المجزرة الأرمنية، والحربان الأهليّة الروسيّة والإسبانيّة، والستالينية وتجميعها الزراعي، ومجاعة أوكرانيا، ودائماً النازية والفاشية... أوروبا المحاربة والمتحاربة قرّرت أن تغدو عاصمة السلام. استدعت من التاريخ أحد ألمع أبنائها، عمانوئيل كانط، الذي دعا منذ 1795 إلى «سلام دائم».
كذلك هي قارّة الاستعمار والفتح وترتيب الشعوب على مراتب، لكنّها أيضاً قارّة التنوير الذي اخترع فكرة إنسانيّة الإنسان ووحدة العالم بعدما وسّعهما باكتشاف أميركا. الكون قبلذاك كان جزراً مفتّتة فجُعل واحداً متّصلاً. أوروبا قرّرت تغليب الطبيعة الثانية على الأولى.
لكنْ في 1992، حين وُقّعت ماستريخت، كانت الحرب تعصف بالبلقان في جنوب القارّة الشرقيّ. الأمر لاح نذيراً بأنّ التاريخ لم ينتهِ والحرائق لا يعوزها الزيت. الامتحان الذي طرحته تلك المنطقة المعقّدة بعناصرها الأهليّة وبتناقضات ما بعد الشيوعيّة المعطوفة على ما بعد العثمانيّة، بدأ صعباً: أوروبا لم تستطع التدخّل لأنّها نزعت أنيابها العسكريّة فيما لا تزال الحاجة مُلحّة إلى الأنياب. الأمر تُرك للولايات المتّحدة التي وصلت متأخّرة.
النزعة السلميّة، الفخورة بالتوحيد السلمي لألمانيا، وجدت من يتّهمها بالسذاجة. في 2003، مع الحرب الأميركيّة على العراق التي عارضتها فرنسا وألمانيا، سكّ دونالد رمسفيلد، وزير الدفاع الأميركيّ، تعبير «أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة». الأولى حلمٌ ذاوٍ، والثانية، أي دول الوسط والشرق القادمة من صقيع الشيوعيّة، أمل صاعد. روبرت كاغان، في كتاب شهير عن «الفردوس والقوّة»، نسّب أميركا إلى كوكب المرّيخ، أي الحرب والخشونة، وأوروبا إلى الزُهرة، أي الجمال والاسترخاء. لقد ساد إجماع أميركي على أنّ الأوروبيين رغبويّون، يعالجون العالم بحسن النوايا ويطبّقون عليه استثناءهم الذي لا يتكرّر.
مذّاك والسجال في معنى «الواقع» لا يخمد حتّى يشتعل. أميركا تقول لأوروبا: تسلّحي وأنفقي على التسلّح أكثر مما تفعلين. القاعدة هي الحرب والإنسان شرٌّ محض. تؤشّر لها بأصبعها: ضعفكِ ما يجعلكِ هامشيّة في نزاعات العالم، بما فيه حدودك المباشرة. لكنّ أميركا، من جهة أخرى، تزيد في إضعافها فتعادي الاتّحاد الأوروبي وتشجّع «بركسيت» في أكثر أشكاله جلافة، كما توطّد علاقاتها بـ«أوروبا الجديدة» على حساب الآخرين. روسيا بوتين تفعل الشيء نفسه عبر أحزاب شعبويّة قويّة ساهمت هي نفسها في تقويتها: في فرنسا وإيطاليا والنمسا... والبَلَدان يقترحان على الأوروبيين ما ظنّ الأوروبيّون أنّهم تجاوزوه: التدقيق في المواليد ومكان ولادتهم، بناء الجدران، توطيد القلاع الحدوديّة، الدفاع عن «الحضارة المسيحيّة» في مواجهة الإسلام...
أوروبا تستجيب بتثاقُل. ترفع إنفاقها على التسلّح، لكنْ بأقلّ مما تطلب واشنطن. تكرّر رأيها بأنّ مكافحة الإرهاب وظيفة الشرطة والاستخبارات، لا الجيوش والحروب. تذكّر بأنّها كسبت المناظرة حول حرب العراق.
الحجّة الأميركيّة تردّ: في الحربين العالميّتين، نحن من أنقذكم، كما أنقذناكم اقتصادياً بمشروع مارشال. بعدذاك، بات تحوّل أميركا إلى قوّة أوروبيّة، من خلال «الناتو»، هو الضامن لعدم تجدّد الحروب بينكم. وتضيف: لنفترض أنّ بوتين أراد أن يفعل بالبلطيق ما فعله بأوكرانيا، فهل أنتم مَن يستطيع ردعه؟
ويعرف الأوروبيّون، الذين يواجهون أيضاً أزمة اللجوء من جنوبهم وصعود الاقتصاد الصيني في شرقهم البعيد، أنّ فزّاعة بوتين حقيقيّة، لكنّ العين بصيرة واليد قصيرة. وإطالة اليد قد «تقوّي» أوروبا بالمعنى الذئبي للقوّة، إلاّ أنّها تكفّ عن رعاية التعدّد وقد تفكّك اتّحادها. ذاك أنّ قيم الاتّحاد الليبراليّة وسوقه المفتوحة غير مرغوبة أميركيّاً وروسيّاً. وبدل أن «تغزو» القارّة عالمها بالنموذج، يغزوها العالم، والحال هذه، بسلاح واقعيّة مبتذلة يمثّل بوتين أبرز شهودها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوروبا الحرب تهزم التعدّد أوروبا الحرب تهزم التعدّد



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon