بقلم: حازم صاغية
ليسَ من المبالغةِ القولُ إنَّ «صفقة القرن» اعتراف من القُسَاةِ بأسبقيَّة إسرائيل في ممارسة القسوة. ذاك أنَّ العالم، كما يتبدَّى اليوم، إنَّما قلَّد إسرائيل ويقلّدها، وقد نجح إلى حدّ بعيد في اللحاق بها. بهذا المعنى فنجاحات تلّ أبيب ليست أمراً ناشزاً: إنَّها، للأسف، الوجهة الكونيَّة الصاعدة.
أميركيّاً، وما دامت أميركا حاسمة التأثير في رسم صورة العالم، ليس قليل الدلالة تعاظم الانحياز لتلّ أبيب من أيزنهاور حتّى الآن. مع دونالد ترمب يبلغ الانحياز حدّ التطابق الكامل. لكنْ عالميّاً، ليس بسيطاً أن تجمع إسرائيل بين أخوّة أميركا وصداقة روسيّا والانفتاح المتبادل بينها وبين الصين والهند ومحدوديّة التراجع الذي أصاب علاقاتها بأوروبا. هذا حتّى لا نتحدّث عن انفراجات، بعضها كبير، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة.
لكنّ المسألة ليست في العلاقات السياسيّة والدبلوماسية. إنّها أعمق من ذلك، وإلى حدّ بعيد يمكن القول إنّ صورة عالمنا هي ما يفسّر العلاقات السياسيّة والدبلوماسية الموصوفة. فالعالم حين ينحاز راهناً إلى الدولة العبريّة ضدّ الحقّ الفلسطينيّ، فهو إنّما يمارس إقراره بفضائلها عليه، أي بطابعها التأسيسي في استئصال الحقوق. إنّ التلميذ، بهذا المعنى، يقول لأستاذه: صرت مثلك.
لا بأس هنا بمسح سريع لبعض علامات القسوة السائدة في زمننا: الشعبويّة ذات التمحور القومي في معظم أرجاء العالم. الإسلاموفوبيا العابرة للأوطان والأنظمة والآيديولوجيّات (مع توسّع في اللاساميّة). تعاظم عمليّات الطرد السكّاني وتعاظم حالات الاستثناء «الغوانتاناميّ» من جرّائها. تلخيص السياسة في حروب على الإرهاب تأخذ الصالح بجريرة الطالح. حتّى الدول نفسها باتت معرّضة لامتحان صعب: إبّان الحرب الباردة، كانت تلك الحرب تحمي وحدة الدول ضعيفة المقوّمات وتضمن استمراريّتها، أمّا بعدها فبات عليها أن تثبت جدارتها بالبقاء. بلد كسوريّا (ضمّ ذات يوم 25 مليون نسمة) غدا، في معمعة «البقاء للأصلح»، عرضة لتجاذب إيراني - تركي - روسي - إسرائيلي يحوّل البلد أرضاً يباباً. بشّار الأسد كان أداة التنفيذ.
في عقر البلدان الديمقراطيّة، تتكاثر عمليّات الانفتاح على أحزاب اليمين المتطرّف: في إيطاليا والنمسا مثلاً. حتّى في ألمانيا نجد ولاية تورينغن الصغيرة تسجّل سابقة خطيرة: تحالف «المسيحيين الديمقراطيين» مع «البديل لألمانيا» ضدّاً على إرادة أنجيلا ميركل. أمّا بلدان الوسط والشرق الأوروبيين التي كان لثوراتها أن صدّعت المعسكر السوفياتيّ، فحالها، بالنسبة للقوميّة والشعبويّة والمهاجرين، أسوأ كثيراً.
صحيحٌ أنّ المدن الكبرى في الدول المتقدّمة تشهد تنامياً في الحساسيّة الإنسانيّة المعولمة، ولا سيّما بين الشبيبة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ معظم هذه الحساسيّة تعبّر عن نفسها في الاشمئزاز من المَشاهد الفظيعة وفي تغيير محطّة التلفزيون كي لا نراها. إنّه سلوك «الإنسان اللاعب» أكثر منه سلوك مَن يغيّر العالم. أليس لافتاً مثلاً أنّنا لم نشهد حركة شعبيّة ونضاليّة تناهض التسلّح النووي كتلك التي عرفتها عقود الحرب الباردة، أو كنصفها، أو كربعها؟
في المقابل، مُخيفٌ في دلالاته ما شهدته ميانمار؛ إذ تتجاوز معانيه حدود ذاك البلد الآسيويّ: أونغ سان سو التي كانت النجمة المضيئة للديمقراطيّة وحقوق الإنسان ومقاومة الديكتاتوريّة العسكريّة، باتت هي نفسها المدافع عن حملة تطهير ينفّذها العسكريّون لمسلمي الروهينغا ممن فرّ منهم إلى خارج البلد أكثر من 750 ألفاً. الحكمة وراء ذلك أنّ الديمقراطيّة نفسها تقومنت: إنّها امتياز لنا وليست حقّاً لسوانا.
أليس في هذا كلّه شيء من الأسبقيّة الإسرائيليّة؟ لنتذكّر فقط بعض العناوين: الطبيعة الاقتلاعيّة للسكّان. التمييز بين مواطني الدولة. الاحتلال وبناء المستوطنات والضمّ. الزعامة الشعبويّة لنتنياهو... تخيّلوا أنّ رئيس حكومة سابق كإيهود أولمرت، الذي قضى أكثر من نصف حياته السياسيّة في حزب ليكود، بات يحذّر من تحوّل إسرائيل إلى دولة تمييز عرقيّ!
إذا صحّ هذا التصوّر عن الأسبقيّة الإسرائيليّة، بات السؤال عن مقاومة إسرائيل أهمّ كثيراً من عمليّة دهس بسيّارة أو تفجير مقهى أو حافلة. كذلك باتت أدوية الماضي (مقاومة، كفاح مسلّح...) عاجزة عن توفير العلاجات، وكلّ ما تفعله توفير الحجج المطلوبة، والفرص المطلوبة، للنظامين السوري والإيراني اللذين لا يصطادان إلا في المياه العكرة.
فلنصارح أنفسنا بأنّ الخيارات الناجعة صعبة وضيّقة، ولا سيّما مع الموقع الموضوعي السيّئ للقضيّة الفلسطينيّة في توازنات القوى، كيفما نُظر إلى هذه التوازنات. مع ذلك، فما هو متبقٍّ للفلسطينيين ولنا رهانان متّصلان: أن يشهد العالم الديمقراطي حركة تصحيح لديمقراطيّته ولرأسماليّته، بحيث تنكفئ التوجّهات القوميّة والشعبويّة لصالح قيم إنسانويّة وتقدّميّة، كالليبراليّة والاشتراكيّة الديمقراطيّة والتدخّل الإنسانيّ، وأن يجد هذا التحوّل استقباله الإسرائيلي المماثل، وهو ما لن يحصل إلا حين يقتنع الإسرائيليّون، في ظلّ فضاء عالمي مختلف، بأنّ عليهم الاختيار بين العنصريّة والديمقراطيّة. أمّا الفلسطينيّون، أصحاب الحقّ، فأملهم، الذي قد يكون وحيداً، هو الانحياز إلى هذا الفضاء: ابتعاداً عن سياسات الهويّة وممارسات الفساد، وتغليباً للمقاومة السلميّة، وحسماً في تأييد أصحاب الحقّ الذين يشبهونهم في بلدان أخرى. أمّا وحدتهم فتأتي بالتأكيد قبل أي اعتبار آخر.
الكلام يبدو وعظيّاً؟ ربّما، لكنّ الوعظ هو ما تبقّى.