بقلم: حازم صاغية
الدفاع عن سياسي لبنانيّ، أي سياسيّ، مهمّة صعبة. قد تؤيّد موقفاً وقفه؛ لكن «اقتصادياته» تبقى سبباً للتحفّظ. وقد توافقه في سلوك حاليّ؛ لكن ماضيه يردع عن الذهاب بعيداً في موافقته. وبالإجمال، هناك هوّة يصعب تجسيرها بين الدفاع عن القيم والعقل وبين نظامٍ كفّ رموزه، منذ وقت طويل، عن إنتاج تلك البضائع النادرة.
بالمعنى نفسه، فإنّ التسوية الأخيرة، أي «مصالحة بعبدا»، تنتمي هي نفسها إلى عقليّة حاكمة بات وصفها بـ«العشائريّة» مألوفاً وشائعاً. يموت من يموت ثمّ يتبادل «أولياء دمهم» القُبَل.
لكنّ هذه الاستدراكات وسواها لا تحول دون الإقرار بأنّ ما تمّ، ولو بالطرق التقليديّة المتوفّرة، كان إحباطاً لانقلاب. نجاح هذا الانقلاب كان ليجعل كلّ ما هو سيّئ أسوأ.
وسواء أكان بيان السفارة الأميركيّة ما أملى «مصالحة بعبدا»، أم الوضع الاقتصادي المتداعي، أم تعقّل نبيه برّي، أم حاجة سعد الحريري إلى انعقاد مجلس الوزراء، أم شعور «حزب الله» بأنّ أولوّياته الضاغطة ليست في جبل لبنان...، تبقى النتيجة واحدة: لقد أُحبط انقلاب كانت أحداث الجبل في الأيّام الأربعين الماضية تمهيداً له.
ذاك أنّ الحصار الذي فُرض على وليد جنبلاط بدا مسكوناً بتجاوزات خطيرة ثلاثة:
- ما يتعدّى السياسيّ، أو ما تبقّى منه، إلى الأمنيّ.
- وما يتعدّى الديمقراطيّ، على ضموره، إلى الاستبداديّ.
- وما يتعدّى الشخصي إلى الجماعة التي ينتسب إليها، أو يمثّلها، الشخص المعنيّ.
وبغضّ النظر عن التفاصيل الأمنيّة؛ حيث واجهتنا دوماً روايتان، فإنّ المناخ الذي لفّ الجبل أوحى بأنّ احتمال دم حقيقي يختبئ وراء الحدث المصنوع. أمّا هويّة الدم وصاحبه فكان من السهل تحديدها في ظلّ تاريخ القتل وهويّة القاتلين والمقتولين في لبنان، فضلاً عن توازنات القوى الحربيّة المعروفة، وحملات التحريض اليوميّة، السياسيّة والإعلاميّة، على وليد جنبلاط.
وكما تفيض المسألة عن السياسي إلى الأمنيّ، وربما الجُرميّ، فإنّها تفيض عن الشخصي إلى الجماعي، تبعاً لموقع جنبلاط التمثيلي في طائفته. فالوجه الذي يُطرَح بديلاً عنه إنّما يصل إلى البرلمان بمنحة منه، والمنحة موقعٌ شاغر على اللائحة الجنبلاطيّة. أمّا تقليم أظافر الزعيم الدرزيّ، بموجب القانون الانتخابي الأخير، فلم يستطع النيل من تمثيله الطائفي نفسه.
بالتالي، فـ«عزل التقدّمي الاشتراكيّ» عزلٌ للدروز بالمعنى الذي كانَه «عزل الكتائب» في 1974 - 5 عزلاً للموارنة. وإحلال طلال أرسلان محلّ جنبلاط شبيه بإحلال يوسف الأشقر أو من يعادله ضعفاً محلّ بيار الجميّل.
والأمر لا يخلو من مفارقة مؤلمة من مفارقات الطوائف وتاريخها المفجع. فالسياسي الراحل كمال جنبلاط هو مَن دعا إلى العزل الأوّل، فكأنّه آكلُ الحصرم الذي ترك لنجله أن يضرس. لكنْ في الحالات جميعاً، وما دامت الطوائف، وحتّى إشعار بعيد آخر، الوحدات السياسيّة الفاعلة، فإنّ أي عزل لطائفة، وأي «تمثيل» لها يُفرَض من خارجها، خطيرٌ بقدر ما هو استبداديّ.
هذا ما يوصلنا إلى الثنائيّة الثالثة. ذاك أنّ صوت جنبلاط المختلف ينبغي ألا يختلف، وفقاً للثالوث «الحاكم»، وهو بالترتيب من أعلى الهرم إلى أدناه: بشّار الأسد، وحسن نصر الله، وجبران باسيل. وجنبلاط مختلف في الجبل وفي لبنان وفي سوريا.
في الجبل؛ لأنّ الطريقة المطروحة في «استعادة حقوق المسيحيين» جلفة وثأريّة، لا ينجم عنها إلا تسميم الجبل وعلاقات أهله بالارتكاز إلى منصّة السلطة. وكما نعلم جيّداً، فإنّ المناعة حيال السمّ ضعيفة لدى الطوائف كلّها.
بدوره، فباسيل الطامح أن يأتي «بما لم تستطعه الأوائل»، يرشّح نفسه لمهمّة قد ينجم عنها تزييت بنادق، مهمّة تحوّل مآسي الجبل في ماضيه مأساة مفتوحة على مستقبله.
لقد قال كارهو جنبلاط ونقّاده إنّه «قد يقلبها مارونيّة – درزيّة». ربّما. ذاك أنّ زعماء الطوائف كلّهم محترفو ألعاب ناريّة. لكنْ أليس الأدعى للانتباه نهج باسيل الاستفزازي في بناء زعامته، هو الذي يتصرّف وكأنّ للسلم لغة واحدة هي لغة الحرب، وللمُواطَنة لغة واحدة هي لغة العداوة؟
وبعد كلّ حساب، فإنّ باسيل، لا جنبلاط، حبيب السلاحين الشرعي وغير الشرعيّ.
وجنبلاط مختلف في لبنان. فهو وطائفته متضرّران من سلاح «حزب الله»، ومما يرتّبه السلاح من توازنات قوى تفرض احتكار الحزب المذكور قرارَ الحرب والسلم. والحال أنّ ما أسّسته «الحركة الوطنيّة» اللبنانيّة بتدخّلها في تمثيل الطوائف، وبنفخ قياداتٍ لها من خارجها، هو ما ورثه «حزب الله» بعدما وسّع نطاقَه ورفع تعبويّته إلى حدّ أقصى.
وجنبلاط مختلف في سوريا. ففضلاً عن الودّ المفقود بينه وبين الأسد، وعن مواضي الدم البيتي والوطنيّ، هناك دروز سوريا الذين حدّ الزعيم اللبناني من احتمال انجرافهم وراء نظام قاتل، وهناك سوريّو لبنان الذين تضامن مع مأساتهم، وحدّد سببها الحقيقي ممتنعاً عن مسايرة الموجة العنصريّة الرائجة.
هذا الثالوث ربما أخطأ في تقييم التكاليف التي تترتّب على الانقلاب فخانتْه حساباته. لكنّ إحباط الانقلاب لا يعني إحباط الانقلابيّة التي قد تراهن على إيران أشدّ تعافياً اقتصادياً، أو على أميركا أشدّ انكفاء عن المنطقة، أو على نظام سوري أكثر بأساً وقدرة على التوحّش.