بقلم حازم صاغية
بوفاة المثقف السوري البارز جورج طرابيشي، تخسر الثقافة العربية، على ما أشار بحقٍّ كثيرون، رمزاً تميز بسعة الإحاطة والدقة والدأب في ما يتناول، فضلاً عن الجرأة الفكرية على أفكار كان يعتنقها ثم لا يلبث أن يطور حيالها موقفاً نقدياً.
فجورج كتب وترجم عشرات الكتب التي امتدت من السياسة والفلسفة إلى علم النفس والنقد الأدبي والنسوية، قبل أن يتفرغ كلياً للتراث الإسلامي عبر نقده أعمال محمد عابد الجابري. بهذا واكب الحقب السياسية والفكرية التي تتالت على العالم العربي، لكنه على عكس معظم «المثقفين الكبار» العرب، لم ينقطع عن متابعة ما يجري في عالمنا وتحولاته: فعلى مدى نيف وعشر سنوات، واظب على كتابة عرض أسبوعي لواحد من الكتب السياسية أو التي تتصل بالفكر السياسي، الصادرة حديثاً في فرنسا. وفي ملحق «تيارات»، في هذه الجريدة، كان «الزميل» جورج ينشر عروضه بتواضع وتخفف من الأنا، وبدأب ودقة ليست مما يوصف به عادةً مَن يُسمَّون «المفكرين العرب».
لقد انتقل جورج طرابيشي من حزب البعث الذي اعتنقه يافعاً، إلى خليط من الماركسية والوجودية أثمر كتباً كـ «سارتر والماركسية» و «الثورة في الثورة الطبقية». لكنه، وكما لاحظ وائل السواح، ترك البعث بُعيد استيلاء هذا الحزب على السلطة، ضداً على جموع المستفيدين ممن انضموا إليه بعدما صار حزباً حاكماً. أما الماركسية، فبحث عن أسئلتها وتناقضاتها، على ما تدل كتب له، كـ «الماركسية والإيديولوجيا» و «النزاع الصيني السوفياتي» وسواهما. وهو بعدما أنشد فترةً، كصديقيه الأكبر سناً بقليل ياسين الحافظ والياس مرقص، إلى خليط ماركسي– قومي عربي بنكهة ناصرية، جاء كتابه «الدولة القطرية والنظرية القومية»، لينبه ضمناً إلى تحفظاته عن هذا الخيار وعن تراجع احتمالاته.
أما اهتمام جورج اللاحق بالتراثيات والإسلاميات فكان مسوقاً بموقف نقدي حاد من متناوليها وإشكالياتهم. بهذا، وعلى نحو قريب مما أشار إليه حسام عيتاني، وضع ثقافيته في مواجهة الثقافية السائدة التي جعلت ثنائية التراث والمعاصرة (أو الأصالة والحداثة) نسغاً قليل الخصوبة لشرايينها الجافة وهربها المداور من «معاصرة العصر».
ولئن أقام جورج في بيروت التي وفرت له مناخاً من الحرية لا توفره سورية البعثية، ففيها تولى رئاسة تحرير مجلة «دراسات عربية» التي نشرت وترجمت بعض ألمع الدراسات التي كُتبت أواخر الستينات وأوائل السبعينات. فحين نشبت الحرب الأهلية– الإقليمية في لبنان، هاجر طرابيشي إلى باريس، التي استقر فيها، برفقة زوجته الروائية هنرييت عبودي، إلى أن وافته المنية.
لقد عُرف جورج، المثقف البارز والرجل المحترم، بنزعة ذهنية مصفّاة كانت أحد مصادر نزاهته وتواضعه بقدر ما كانت هي نفسها من أسباب غلوه في التجريد طلباً للعلمانية وإصراراً على التقدم والعقلانية. وخلفيةٌ كهذه قد تُلحق بصاحبها نوعاً من الشلل السياسي حيال واقع لم تتوقعه النزعة الذهنية القصوى، وهي قد تحرفه مراتٍ إلى شيء من الوعظ، خصوصاً حين يبخل ذاك الواقع بتقديم الحوامل اللازمة لتلك القيم الكونية. وأذكر، في المرة الأخيرة التي التقيته في باريس أواسط 2012، كيف انقسم حديثه السياسي شطرين متعادلين، واحداً يدين نظام الأسد، لاستبداده وعدائه للديموقراطية، وآخر يخاف الثورة، لما اعتبره ميلاً عنفياً ونزوعاً دينياً وطائفياً تتزايد وطأته عليها. لكن المؤكد أن جورج بدا أشد حزناً على سورية من اهتمامه بعرض آرائه السياسية حيال نظامها وثورتها، فحديثه يومذاك طغى عليه العاطفي والوجداني ومصطلحات الحنين والخوف والقلق وصولاً إلى الموت. وهو نفسه، في آخر نص كتبه، إنما أدرج موته «الصغير» في الموت الكبير لوطنه.
كائناً ما كان الأمر، ولأن المحاكم العرفية والعسكرية هي وحدها ما يختصر حياة المرء وإنتاجه في موقف سياسي مختلَف عليه، يبقى طرابيشي، لي ولكثيرين من أبناء جيلي والجيل الأصغر قليلاً، أحد الأساتذة الذي علمنا الكثير. وكان بعض ما علمنا إياه، في عمله وفي حياته، الشجاعة الفكرية والنزاهة والتواضع. عسانا نتعلم.