توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لو ننحازُ إلى الحِياد*

  مصر اليوم -

لو ننحازُ إلى الحِياد

بقلم : سجعان قزي

رسالةُ لبنان تُحتِّمُ عليه الانحيازَ، إنه وطنُ القلب. ومَوقِعُه يُحتِّم عليه الحيادَ، إنه في قلبِ الأزَمات. والمعادلاتُ الإبداعيّةُ في العِلمِ والفلسفةِ، وحتى في السياسةِ، غَالباً ما تنشأُ مِن مَزْجِ التناقضاتِ أكثر من جَمْعِ المتَشابِهات. أنّى للبنانَ إذَن أنْ يُوَفِّقَ بين رسالتِه التاريخيّةِ ومَوقعِه الجيوسياسي، وبين حماسةِ الانحيازِ وحِكمةِ الحياد؟ 
اعتمادُ الحيادِ استناداً إلى مَنطقِ الأخلاقِ يؤَدي إلى سؤالٍ استطراديٍّ هو: أإغِفالُ مصائب الآخَرين بِحُجّةِ الحيادِ هو عملٌ أخلاقيّ؟ في بدايةِ القرنِ التاسعِ عَشَرَ لَحَظَ بورتاليسPortalis (1746/1807(، أبرزُ واضِعي القانونِ المدنيِّ الفرنسيّ، ضرورةَ أن تُستَكْمَلَ العلمنةُ بـ"أخلاقيّةٍ دينيّة" (morale religieuse) خَشيةَ أن تَقضيَ على القيمِ الروحيّةِ في المجتمعِ الفرنسي. كذا الحيادُ يستقيمُ في لبنانَ بأنْ يرُفَقَ بـ"أخلاقيّةٍ تضامنيّةٍ" مع قضايا حقوقِ الإنسان، وبخاصةٍ في الشرق الأوسط.
مبدأُ الحيادِ لجأَت إليه الشعوبُ بسببِ هزيمةٍ عسكريّةٍ كالنَمسا، أو بسببِ حروبٍ داخليّةٍ كسويسرا، أو بسببِ جِوارِ دولةٍ كبرى تَوسُّعيّةٍ كفِنلندا، وغالباً للأسبابِ الثلاثةِ معاً. بفضلِ حِيادٍ مُتفاوِتِ المستويات، تَفادَت هذه الدولُ الثلاث شَبحَ التقسيمِ أو الضّمِّ إلى دولٍ أخرى. هذه الحالاتُ جميعُها، لاسيّما خطر التقسيمِ، قائمةٌ في لبنان وتَحُثُّنا على التفكيرِ في ما إذا كان الحيادُ يناسِبُ لبنان.
كلبنانيّين، قد نَختلِف على قضايا عديدةٍ، لكنّنا نتّفِق على أنَّ أزَماتِنا وحروبَنا نَشبَت نتيجةَ: 1) خِلافاتِنا الطائفيّةِ والمذهبيّةِ، 2) وجودِنا في جِوارِ دولٍ طامِعةٍ بأرضِنا، 3) انحيازِنا ـــ عقائديّاً ونِضاليّاً وعسكريّاً ـــ إلى صراعاتِ المحيطَين العربيِّ والإسلاميِّ وحتى الدوَليِّ. وحالَت هذه العناصرُ الثلاثة أيضاً دونَ اتفاقِنا على قواعدَ متينةٍ لِحَلٍّ دائمٍ للأزَماتِ والحروب، فاكتفَينا، على مَضَضٍ، بتسوياتٍ من حناياها فاحَت روائحُ الغَلَبةِ والغُبنِ، وفي طيّاتِها حَمَلت بُذورَ فِتنٍ لاحِقة.
إذا كان هذا المَحْضَرُ صحيحاً، هناك حقيقةٌ ملازِمَةٌ له هي أنَّ منسوبَوَطنيّتِنا لم يُساعِدْنا على تَخَطّي انقسامِنا الطائفيِّ وانحيازِنا إلى الخارج وعلى مَنعِ الآخرين من التَدخُّلِ في شؤونِنا. عدمُ التَصَدّي لهذا الواقعِ اللبنانيِّ يُعَرِّضُ لبنانَ لثلاثةِ احتمالاتٍ أحلاها مُرٌّ: استمرارُ الفتنِ عَبْرَ الأجيال، تقسيمٌ واقعيٌّ أو شرعيٌّ، وسيطرةُ فريقٍ بالقوّةِ على باقي الأفرِقاء. وحاليًّا نعيش هذه الحالات جملةً وتفصيلًا. 
إن كانت ثابتةً أهدافُ الحيادِ: الاستقلالُوالاستقرارُ والحرّية، فمفاهيمُه مُتنوِّعة. ليس الحيادُ صيغةً مُعلَّبةً تَصلُحُ لكلِّ دولةٍ في كلِّ زمانٍ ومكان. هو فكرةٌ سلميّةٌ يُكـيِّـفُها كلُّ شعبٍ وَفْقَ مشاكلِه وأوضاعِه وحاجاتِه. هناك الحيادُ السلبي (passif) تِجاه جميع النزاعاتِ كما اعتمَدتْه سويسرا. وهناك الحياد الناشِط (actif) الذي مارَستْه النمسا، فلعِبت أدواراً سياسيّةً على الصعيدين الأوروبيِّ والدوليِّ لامَسَت حدودَ الانحيازِ أحياناً. وهناك الحيادُ الظرفيُّ (conjoncturel) الذي تَتّخِذه دولةٌ حِيالَ نِزاعٍ مُحدَّدٍ على غِرارِ ما فعلت السويد في الحربين الأولى والثانية. وهناك الحيادُ المراقَبُ (surveillé) الذي فَرضَ على فنلندا مسايرةَ الإتحادِ السوفياتيّ، الملاصِقِ لها، طَوالَ فترةِ الحربِ الباردة.
في ضوءِ النماذجِ السويسريّةِ والنمساويّةِ، وحتى الفِنلنديّةِ، الحيادُ مَنفَذٌ دُستوريٌّ إنقاذيٌّ لا خِيارٌ عقائديٌّ. وإذ سياسةُ الحيادِ في هذه الدول أَثبَتَت نَجاحَها عبرَ السنين رُغم تقلّباتِ الزمنِ وتَطوّرِ الأحداث، التجاربُ العمليّةُ أكّدَت أيضًا أنَّ الحيادَ حالةٌ انفتاحيّةٌ تجاهَ الدولِ الأخرى. فعدا الامتناعِ عن التورّطِ العسكريِّ، لعِبت الدولُ المحايِدةُ أدواراً في خِدمةِ الإنسانِ وحَلِّ النِزاعاتِ ومصالحةِ المتصارعين أكثرَ من الدولِ المنحازةِ التي تُسَبِّبُ سياساتُها معظمَ مشاكلِ العالمِ ومآسيه. وفي أيّامِنا هذه، غالباً ما يكونُ التضامنُ السياسيُّ والديبلوماسيُّ والاقتصاديُّ والإعلاميُّ مُفيداً أكثرَ من التَدخّلِ العسكريِّ.
وخِلافاً لما يَتَوهّمُ البعضُ، الدولةُ الحياديّةُ ليست بالضرورةِ ضعيفةً أو مُسْتضعَفة. فالحِيادُ ليس شرطًا حتميًّا تَفرُضه دولةٌ منتَصِرةٌ على أخرى، وليس مُرادِفًا للاستسلام. إنه حالةُ انتصارٍ سلبيٍّ (passif). لو لم يَكُن الحيادُ مناسِباً لسويسرا والنمسا لتَخَلّتا عنه لاحقًا، فلا نابوليون الآنَ يُهدّدُ الأولى، ولا هتلر وستالين يَحتلان الأخيرة. الحيادُ خَيارٌ حرٌّ تَقبَلُه أو تَرفُضه أيُّ دولةٍ منتصرةً كانت أو منهزِمةً. وأساسًا، لا حِيادَ بدونِ سيادةٍ واستقلالٍ وأمنٍ وحرية. وحين تَمتنعُ دولةٌ محايِدةٌ عن القيامِ بأمرٍ ما، فلأنَّ لا مصلحةَ لها فيه وليس لفُقدانِها القرارَ الحرّ. مَن لا يُلقي بنفسِه في النارِ ليس بالضرورةِ إنساناً مُقيَّداً بل هو إنسانٌّ حرٌّ لا يريدُ أن يَحترق. دستورُ الدولةِ المحايِدة يَردَعُ الغرائزَ الداخليّةَ والأطماعَ الخارجيّة، فيُتيحُ للدولةِ أن تشاركَ في حلِّ مشاكلِ الآخرين من دونِ أن يَتدخّلَ الآخرون في شؤونِها ويَخلقوا لها مشاكلَ عَصِيّةَ الحل.
ما أحوجَ لبنانَ إلى مِثلِ هذه الضوابطِ ليستعيدَ استقلالَه الحقيقيَّ ووِحدتَه وقوّتَه. إن جوهرَ نشوءِ دولةِ لبنانَ في الشَرقِ هو مشروعُ دولةٍ حياديّةٍ بفعلِ مُميّزاتِه الخاصة التي تُشكل قوّته وضعفَه في آن معاً. ولو لم تكن الخَلفيّةُ الحياديّةُ موجودةً لدى مؤسّسي هذه الدولةِ لما كانوا أصرّوا على كِيانٍ لبنانيٍّ مستقل. فالكِيانُ اللبنانيُّ سنةَ 1920 هو حالةٌ استقلاليّةٌ قبلَ الاستقلالِ. لبنان موجودٌ، إذن هو مستقلٌ، ولبنان مستقلٌ، إذن هو حيادي.
استناداً إلى كلِّ ما تَقَدّم، يبدو الحيادُ صيغةً مُفصَّلةً على قِياس دولةٍ كلبنان. فالحيادُ يتيح للبنانيّين الغيارى على الآخرين، أنْ يُوَفِّقوا بين العقلِ والقلب، بين المصلحةِ الوطنيّةِ والأهواءِ الفئوية، بين الأمنِ والحرية، بين المشاركةِ والتورّط، بين الانحيازِ والتضامن.
أما تحفظاتُ البعضِ داخلياً وإقليمياً، فالتطوراتُ الآتيةُ في الشرقِ الأوسط الواسعِ تُزيل جُزءاً منها، والإجماعُ الدوليُّ عَبْرَ مؤتمرٍ أُمَميٍّ، يُزيلُ الجزءَ الباقي. إن السيرَ في تحييدِ لبنان هو استكمالٌ طبيعيٌّ للاعترافِ به وطناً نِهائياً وتعويماً إيَّاه "وطنًا رسالة". وما عدا معاندةً قد تؤدّي إلى تفضيلِ تعديلِ الوطنِ على تعديلِ السياسة، لا شيءَ يَمنعُ لبنانَ مِن إن يُنقِذَ نفسَه كما أنقذَت نفسَها شعوبٌ عانَت في تاريخِها ما يُعانيه لبنان. مجموعُ هذه المعطياتِ والمخاوف كانت حاضرةً في ضميرِ البطريركِ بشارة الراعي صبيحة الأحد الماضي (5 تموز) حين دعا الأممَ المتّحدةَ إلى أن تُعلنَ حِيادَ لبنان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لو ننحازُ إلى الحِياد لو ننحازُ إلى الحِياد



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 08:21 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon