توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الحِيادُ هذا اللَقاحُ العجائبيُّ

  مصر اليوم -

الحِيادُ هذا اللَقاحُ العجائبيُّ

بقلم : سجعان قزي*

ليس من الضروريِّ أن يُعلَنَ حيادُ دولةٍ أثناءَ حربٍ أو بَعدَها. فجزيرةُ مالطا اعتمدَت الحِيادَ في ظروفٍ سلميّةٍ تامّة. وكان الاتّحادُ السوفياتيُّ طليعةَ الدولِ التي أيّدت خطّيًا حِيادَها في 08 تشرين الأول 1981.

اعتمادُ نظامِ الحيادِ اللبنانيّ لا يَرتَبِطُ بواقعٍ معيَّنٍ فقط، وإلّا لاتَّـــبَــعْنا سياسةَ النأيِ بالنفسِ مرحليًّا، إنّما يَرتبطُ بطبيعةِ الوجودِ اللبنانيِّ تاريخيًّا وجُغرافيًّا وديمغرافيًّا. لا يَضمَنُ استمرارَ هذا المزيجِ اللبنانيِّ سوى الحِياد. هذه حقيقةٌ تاريخيّة. وأصلًا، ما كانت الأزَماتُ اللبنانيّةُ نَشأت لو لم تَشرُدْ مكوِّناتٌ لبنانيّةٌ عن طبيعةِ لبنان. الحِيادُ هو أحدُ الركائزِ التأسيسيّةِ لكيانِ لبنان ودولتِه. بدونِه لا لبنانَ مستقلًّا. وبالتالي أيًّا تَكن صيغةُ لبنانَ الدستوريّةُ مركزيّةً أو لامركزيّةً، فدراليّةً أو تقسيميّةً، يُلازِمُها الِحيادُ فيُعطيها مناعةَ الاستقرار. الحيادُ هو اللَقاحُ العجائبيُّ لِدَرءِ الأزَماتِ والصراعات.

نَرفضُ سياسةَ النأي بالنفسِ، لا لأنّها سيئةٌ، بل لأنّها غيرُ كافية. فالشرقُ الأوسطُ لا يُفرِزُحربًا كلَّ مئةِ سنة، فحروبُه وصراعاتُه لا تَنقَطِعُ وتَرتَدُّ على اللبنانيّين. لذا يَحتاجُ لبنانُ نظامَ نأيٍ بالنفسِ ثابتًا، اسمُه نظامُ الحيادِ الدائم. فلا يُمكنُ للّبنانيّين أن يكونوا مَوادَّ حروبِ المنطقةِ كلّما حصل انقلابٌ في دولةٍ عربيّةٍ، أو بَرزَ في الشرقِ الأوسطِ زعيمٌ، أو رجلُ دينٍ، أو مشروعٌ توسعيٌّ، أو نزعةٌ قوميّةٌ، أو حالةٌ تكفيريّةٌ وجِهاديّة. دَفعنا غاليًّا ثمنَ هذه التجلّياتِ من الخَمسينات إلى الآن؛ فشكرًا.

هناك استحالةٌ في البقاءِ دولةً لبنانيّةً واحدةً من دون حِياد. الأمورُ صارت واضحةً. هذا هو الخطُّ الأحمرُ الذي يَفصِلُ بين الشراكةِ والافتراق. لذلك نطرحُ الحيادَ لإنقاذِ وِحدةِ لبنان أكثرَ مـمّا لإنقاذِ لبنان بحدِّ ذاته. لبنانُ باقٍ في جميعِ الأحوال. لكنّنا نريدُ أن يبقى لبنانَنا جميعًا، نحن المؤمنين به واحةَ سلامٍ، وكِيانَ لقاءٍ، وقوّةَ دفعٍ للأخوّة بين ضِفّتَي المتوسط، ومُلتقى تَتجسَّدُ فيه قيمُ الأديان.

حريٌّ بالمكوّناتِ اللبنانيّةِ أن تَقتنعَ أنَّ الحيادَ ليس مشروعًا مناقِضًا للخصوصيّاتِ والقناعاتِ الذاتيّةِ المختلِفةِ التي تأخذُ مداها في اللامركزيّةِ أو الاتّحاديّة. فالحِيادُ هو نظامُ وجودٍ يَحمي التعدديَّةَ بكل أبعادِها ويُعطيها حقَّ ممارسةِ اختلافِها بحضارةٍ وسلام. الحِيادُ هو أمنٌ داخليٌّ ودفاعٌ خارجيّ.

هكذا، يُعزِّزُ الحيادُ الثقةَ بين مختلَفِ المكوّنات اللبنانيّةِ لأنّه يُوحِّدُ ولاءَها الوطنيَّ والسياسيَّ للبنان. ويُسهِّلُ الحيادُ، استطرادًا، تطويرَ النظامِ الطوائفيِّ نحو "المدنيّةِ" بلا خوفٍ من تبادلِ الصلاحيّاتِ أو حتّى التنازلِ عمّا يُعتَبرُ التنازلُ عنه محظورًا من دونِ حِياد. فَحِرصُ الطوائفِ حاليًّا على صلاحيّاتِها الدستوريّةِ ومناصبِها في الدولةِ ناتجٌ أساسًا عن الخوفِ من انحيازِ الآخَر نحو محاورَ عربيّةٍ وإقليميّةٍ ودوليّةٍ والتفريطِ بمصلحةِ لبنانَ واستقلالِه وسيادتِه. في هذا الإطار لو كان نظامُ الحيادِ قائمًا لما اختلَف اللبنانيّون على مفهومِ المشاركةِ في الحكم منذ سنةِ 1958، ولَما حَصَلت الحروبُ والفِتنُ والمجازرُ ووَقَعنا في تعديلاتٍ دستوريّةٍ ذاتِ طابَعٍ طائفيٍّ ومذهبيٍّ غَطَّت على الأسبابِ الخارجيّةِ (الفِلسطينيّةِ والسوريّةِ والإسرائيليّة) التي كانت وراءَ اندلاعِ حربِ 1975 وما تلاها.

ما وَجدتُ سببًا لبنانيًّا واحدًا مُقْنِعًا لرفضِ الحيادِ. فجميعُ الأسبابِ التي يَسوقُها معارضُو الحياد(هشاشةُ التركيبةِ اللبنانيّة، غِيابُ التوافقِ الداخليّ، ضُعفُ لبنانَ العسكريُّ، معارضةُ دولِ الجِوار، الصراعُ مع إسرائيل، القضيّةُ الفِلسطينيّةُ) هي ذاتُها الأسبابُ التي أقنَعتْني بالحِياد. وعوضَ أن تكونَ مصلحةُ لبنان معيارَ تأييدِ الحيادِ أو رفضِه يُعطي معارِضوه الأولويّةَ لمصالح دولٍ أخرى وقضايا غيرِ القضيّة اللبنانيّة. يتَحجَّجون بمصالح سوريا وفِلسطين وإسرائيل والعروبةِ وإيران والشرقِ الأوسط. أما مؤيدو الحياد فيُقدِّمون مصلحةَ لبنان على سواها من دونِ التنكّرِ لانتماءِ لبنان العربيّ.الحيادُ ضِدّ التورّطِ لا ضِدَّ التضامن. في هذا السياق، إنَّ معارضةَ الجوارِ اللبنانيّ، دولٍ وجماعاتٍ، لحِيادِ لبنان هي سببٌ أساسيٌّ وإضافيٌّ للتمسّكِ به لأنَّ معارضةَ هؤلاءِ إيّاه تَكشِفُ عن وجودِ نيّةٍ توسعيّةٍ لديهم ضدَّ لبنان.

ماذا يعني أولئك الّذين يقولون إنَّ لبنانَ المحايدَ عاجزٌ عن حمايةِ حيادِه بنفسِه؟ هل يَعنون أنَّ لبنانَ من دونِ حِيادٍ قادرٌ على حمايةِ انحيازِه؟ هل يَقترحون أن نوكِلَ حمايةَ لبنانَ إلى قوّةٍ خاصّةٍ أو إلى دولةٍ أجنبية؟ حمايةُ لبنان واجبةُ الوجودِ أكان لبنانُ محايِدًا أم لا. وأيُّ ضماناتٍ أمنيّةٍ يُعطيها المجتمعُ الدوليُّ تَحمي حِيادَ لبنان لا لبنانَ في المطلق. بمعنى أنَّ هذه الضماناتِ قابلةُ الصرفِ إذا اعتدى أحدٌ على لبنانَ الملتزِمِ الحياد، لا إذا حَصلَ اعتداءٌ عليه جَرّاءَ خروجِه عن الحِياد. وبالمناسبة، هل لبنانُ غيرُ المحايد أثبتَ مرّةً واحدةً أنّه قادرٌ على حمايةِ نفسِه بنفسِه من خلالِ دولتِه أو من خلال قوّةٍ حزبيّةٍ أو طائفيّة؟ وأساسًا متى حَمى الانحيازُ لبنانَ منذ سنةِ 1920 إلى اليوم؟

في المفهومِ الدُوَليّ، الحيادُ هو بحدِّ ذاتِه جيشٌ دستوريٌّ ليس أَقَلَّ من الجيشِ قدرةً في الدفاع عن لبنان، ذلك أنَّ نظامَ الحِياد، المضمونَ دوليًّا، يُشكّل قوّةَ ردعٍ ذاتيّةً تُحظِّرُ تدخّلَ أيِّ طرفٍ في شؤونِ لبنان المحايد. الحيادُ لا يُلغي وجودَ قوّةٍ عسكريّة، إنما يغيّرُ مفهومَها ومَداها لأنّه يوفّرُ استخدامَها. فأيُّ بلدٍ يَعتدي على لبنانَ المحايِد، يَعتدي على كلِّ دولةٍ وافقَت على حِيادِ لبنان وضَمنَته. لكنَّ لبنان، مثلُ أيٍّ دولةٍ، مدعوٌّ إلى بناءِ قوّةٍ دفاعيّةٍ من دونِ التورّطِ في سباقِ التسلّحِ، إذ مهما عَظُمت القدُراتُ العسكريّةُ لدولةٍ تبقى هناك دولٌ أقوى منها. القوّةُ ليست كلَّ القوّة، والاستراتيجيّةُ الدفاعيّةُ لا تُبنى على القوّةِ العسكريّةِ فقط.من دونِ تضخيمِ دورِ العَلاقاتِ الدوليّة، إنَّ المواءَمةَ بين التزامِ لبنان الحيادِ، واتّباعِ نهجٍ ديبلوماسيٍّ ناشطٍ، وامتلاكِ جيشٍ شعبيٍّ ضارب، تكفي لضمانِ وجودٍ لبنانيٍّ حرٍّ وسيّدٍ ومستقرّ.

إنَّ المجتمعَ الدوليَّ يؤيّدُ حِيادَ لبنان، فهو المشروعُ الوحيدُ الذي يُعيدُ لبنانَ إلى خريطةِ العالم، ويَدفعُ العالمَإلى التطلّعِ إليه والاهتمامِ به. وإذا كان المجتمعُ الدوليُّ يتريّثُ في السيرِ قُدُمًا، فمن أجلِ إعطاءِ اللبنانيّين الوقتَ ليُكوّنوا أكثريّةً واضحةً تُطالب به. من هنا يَستلزم تحقيقُ حيادِ لبنان نضالًا ذا ثلاثةِ مُنطَلقات: فكريٌّ وسياسيٌّ وديبلوماسيّ. ومن أجل ذلك، لا بُدَّ من تسويقِ مشروعِ الحياد بشكلٍ عَمليٍّ لا إعلاميٍّ فقط.

سجعان قزي وزير لبناني سابق*

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحِيادُ هذا اللَقاحُ العجائبيُّ الحِيادُ هذا اللَقاحُ العجائبيُّ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon