توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لا يَكُن لكُم وطنٌ غيري

  مصر اليوم -

لا يَكُن لكُم وطنٌ غيري

سجعان قزي
بقلم - سجعان قزي

اللبنانيّون من مختلفِ الطوائفِ مَعنيّون أخلاقيًّا وجُغرافيًّا بالصراعِ العربيِّ ــــ الفارسيِّ في الـمِنطقة، فهم يَنتمون إلى العالمِ العربيِّ. ومعنيّون أخلاقيًّا ووطنيًّا بالنزاعِ بين السُنّةِ والشيعةِ في لبنان، فهما مكوِّنان أساسيّان في الشراكةِ الوطنيّة. أنْ نكونَ معنيّين لا يُبرِّرُ مطلقًا الانحيازَ عسكريًّا إلى الصراعِ في المنطقةِ، ومذهبيًّا إلى النزاعِ في لبنان. وأنْ نكونَ حياديّين لا يَعني أن نساويَ بين مَن يساعدُ دولةَ لبنانَ وشعبَه في كلِّ المجالاتِ (دولُ الخليجِ العربيّةُ)، وبين مَن يواصِلُ الهيمنةَ على دولةِ لبنان والإساءةَ إلى شعبِه (إيران وحلفاؤها). وأنْ نكونَ حياديّين لا يَعني أيضًا أن نساويَ بين مَن التزمَ مشروعَ الدولةِ (غالِبيّةُ السُنّةِ)، وبين مَن يَلتزِمُ مشروعًا مناقِضًا الدولةَ (حزبُ الله). 
ليس اللبنانيّون ضِدَّ إيران وحزبِ الله لأنهما شيعةٌ، وليسوا مع القِوى السنيّةِ الوطنيّةِ لأنّها سُنّية. الخِيارُ الوطنيُّ يُحدِّدُ الـمَعيّةَ بمنأى عن الانتماءِ الطائفيّ. أصلًا ليس الحيادُ الامتناعَ عن الدفاعِ عن النفسِ وعن استقلالِ كيانِ لبنان وسيادةِ دولتِه ومصالحِ شعبِه أكان المعتدي لبنانيًّا أو غريبًا. حدودُ الحيادِ هي حدودُ سيادةِ لبنان. وحدودُ السيادةِ ألّا يَعتديَ أحدٌ علينا وألّا نعتديَ على أحد. 
في هذين الواقِعين اللبنانيِّ والإقليميِّ ينحازُ لبنانُ إلى ذاتِه. فلبنانُ، شعبًا ودولةً وكِيانًا ونِظامًا، يتعرّضُ اليومَ لحربٍ غيرِ معلَنةٍ، ولانقلابٍ من دونِ بَلاغات. تجاهَ هذه الحالات، تَستَسلمُ الشعوبُ أو تُقاوم. وحَسْبي أنَّ اللبنانيّين أهلُ مقاومة (وإنَّ الأمسَ لذاكِره قريب). لذلك لا حرجَ في اتّخاذِ موقِفٍ صريحٍ وشُجاعٍ لصَدِّ الحربِ ووقفِ الانقلاب هذا لا يَنتهِكُ مفهومَ الحياد. مؤسِفٌ أنْ يَفرِضَ علينا حزبُ الله وإيرانُ، رغمًا عنّا، هذا الموقفَ، فيما نَطمَحُ إلى أفضلِ صداقةٍ مع إيران وأحسنِ شراكةٍ مع جميعِ شيعةِ لبنان. يَزعَمُ حزبُ الله أنّه لا يُوجِّهُ سلاحَه نحو الداخل اللبنانيّ (!!!)، لكنَّ مواقفَه وتصاريحَه ضِدَّ شركائِه في الوطن وأصدقاءِ لبنان مؤذيةٌ أكثرَ من سلاحِه. السلاحُ يَقتلُ فردًا بينما الموقفُ يَقتلُ وطنًا.
أنتمي شخصيًّا إلى جيلٍ سَمِعَ في فتوّتِه أنَّ السُنّةَ سببُ مشاكلِ لبنان ("العروبةُ أوّلًا"). وبَلغتُ جيلًا يَسمَعُ أنَّ الشيعةَ أمْسوا سببَ مشاكلِ لبنان ("إيران أوّلًا"). وفي زمنِ "المارونيّةِ السياسيّةِ" كنتُ أسمعُ أنَّ الموارنةَ يُهيْمنون بصلاحيّاتِهم الواسعةِ على دولةِ لبنان وهم انعزاليّون ("لبنانُ أوّلًا وأخيرًا"). مع أنّي ضِدَّ هذا التعميمِ الطائفيِّ، خَوّنَ اللبنانيّون بعضَهم بعضًا في جميعِ المراحل كأنّهم يَنتمون إلى منظومةِ "تخوينٍ وطنيٍّ" لا إلى منظومةِ "شراكةٍ وطنيّة". ليْتني أَلحَقُ جيلًا يرى كلَّ مُكوِّناتِ لبنان قد صارت عنوانَ نجاحِه وسلمِه وتألُّقِه وازدهارِه وحَفرَت في قلوبِها: "لبنانُ أوّلًا وأخيرًا". 
هذه الموروثاتُ المشَكِّكةُ والمنتشِرةُ في المجتمعاتِ اللبنانيّة، لم تُنهِك فقط لبنانَ الكبير في المئةِ سنةٍ الماضيةِ بل - وهنا الخطورةُ - جَعلت اختيارَ شَكْلِ لبنان الجديد أمرًا في غايةِ الصعوبة. فواقعُ لبنان الحالي لا يَتناسبُ مع أيِّ نظامٍ حضاريٍّ، حَصْريًّا كان أو اتّحاديًّا، مركزيًّا أو لامركزيًّا، ديمقراطيًّا أو ديكتاتوريًّا، محايِدًا أو مُنحازًا. جسمُ لبنانَ السياسيُّ والديمغرافيُّ وبحُكمِ تَفتُّتِه وعجزِ قياداتِه لَبّيسُ مشاكلَ لا حلولًا. يجب انتظارُ زوالِ الوَرَمِ حتى يَلبَس نظامًا على قياسِه.
هذيانٌ، بل خيانةٌ أن نُفكّرَ بحلولٍ عسكريّةٍ حين الحلولُ السلميّةُ مُتاحةٌ. لكنَّ طبيعةَ النزاعِ الحادِّ ونوعيّةَ المشاريعِ المتصارِعةِ في لبنان والـمِنطقةِ وعِقدةَ سلاحِ حزبِ الله، توحي جميعًا (وهذه ليست أمْنيتي) أنَّ أيَّ حلٍّ للبنان بات يَستلزِمُ تدخّلًا عسكريًّا لمنعِ نشوبِ حربٍ أهلية، للحؤولِ دوَن زوالِ لبنان، ولمساعدةِ اللبنانيّين على إرساءِ نظامٍ جديد. القِوى السياسيّةُ الأسيرةُ والمرتَهنَةُ لمئةِ دولةٍ ودولتَين عاجزةٌ عن إعادةِ توحيدِ الدولةِ سلميًّا، وعن اعتمادِ أيِّ صيغةٍ دستوريّةٍ أخرى سلميًّا أيضًا. نعيش مأزقَ اللاحل الناتجَ عن اللادولةِ الناتجةِ عن منطقِ السلاحِ الناتجِ عن اللاولاءِ للبنان.
عَلاوةً على الصلاةِ، ربّما كانت هذه الهواجسُ في ذهنِ وزيرِ خارجيّةِ الفاتيكان حين كرّرَ مخاوفَ البابا فرنسيس على مصيرِ لبنان. وهي مخاوفُ تلتقي مع تصريحٍ سابقٍ لوزيرِ خارجيّةِ فرنسا. وحين تصبحُ دولةٌ معرَّضةً للزوالِ يتأكّد أنّها دولةٌ فاشلة. وفشلُ لبنان لم يَتأتَّ بسببِ التدخّلاتِ الخارجيّةِ تحديدًا، بقدْرِ ما نَشأ تدريجًا بسببِ إخفاقِ بَنيه عن الاتّفاقِ على الحياةِ معًا، على تحييدِ وطنِهم، وعلى هويّةِ الدولةِ ونظامِها ودورِها. لـمّا كان لبنانُ تحت الاحتلالِ المباشَر كان دولةً محتلّةً لا فاشلة. 
للخروجِ من الفَشل، نحتاجُ إعادةَ تأهيلٍ وطنيٍّ وثقافيٍّ وحضاريّ. نحتاجُ أن نَستعيدَ النُطقَ المهذَّب والحوارَ الراقي والذوقَ الرفيع وقواعدَ الشراكةِ الوطنيّةِ وفرحَ الاعترافِ بالآخَر. نحتاجُ أن نَسترجعَ حاسّةَ التمييزِ بين الحِيادِ والانْحياز والوطنيّةِ والخيانة والإخلاصِ والعمالة والصداقةِ والتبعيّة. نحتاجُ إلى دوراتٍ تدريبيّةٍ على احترامِ الدستورِ والقوانينِ والمؤسّساتِ، وإلى دروسٍ تطبيقيّةٍ في حِفْظِ النشيدِ الوطنيِّ وإنشادِه، في معنى وِحدةِ الولاء، ولبنانَ أوّلًا، ونهائيّةِ لبنان، و"أنا هو لبنان وطنُك، لا يكن لكَ وطنٌ غيري".
في العقودِ الأخيرةِ ووسْطَ الانهيارِ الشامِلِ في السنواتِ الجاريةِ، وَضَعَ الاحتلالُ أجيالًا لبنانيّةً خارجَ مفهومِ الدولةِ والسيادةِ والعزّةِ حتى صارَت تَعتبر هذه الأساسيّاتِ كماليّات. أقامَ الاحتلالُ حاجزًا بين اللبنانيّين ومحيطِهم العربيِّ وتقاليدِهم والنظامِ والقوانين، وفَصَلَهم عن مجدِهم وعظمائِهم وتاريخِهم، وقدّم إليهم زمنًا اخْتزلَه بوجودِه، ووَلّى عليهم تَبعيّين بثيابِ رؤساءَ ووزراءَ ونوابٍ وقادة. غُيِّبَ اللبنانيّون عن الحضارةِ والثقافةِ والحياةِ المدنيّةِ حتى صَعُب على كثيرين منهم التفريقُ بين الجمالِ والقبحِ في الألوانِ والكتابةِ والموسيقى والأغاني والفنون. كانت بطاقةُ "تسهيلِ المرور"، بالنسبةِ لبعضِ اللبنانيّين، أهمَّ من بطاقةِ الهُويّةِ اللبنانيّة، و"مركزُ عَنجر" أهَمَّ من معركةِ عَنجر (03 تشرين الثاني 1623).
الخروجُ من هذه الغيبوبةِ التاريخيّةِ لا يَستلزمُ تطبيقَ الدستورِ أو تعديلَه فقط. مشكلةُ لبنان في مكانٍ آخَر: هي هناك حيث البؤرُ الأمنيّةُ والثَغراتُ الحضاريّةُ والفَجَواتُ الثقافيّةُ والاختلافُ في أنماطِ الحياة. هي هناك حيثُ الولاءُ للغرباءِ، وعِصيانُ نهجِ الحيادِ والثوابتِ التاريخيّةِ والابتعادُ عن الدولِ المتقدِّمةِ. هي هناك حيث لم يَفرِز المجتمعُ اللبنانيّ منذ عقودٍ دولةً مُهابَةً ولا ثورةً جِدّيةً ولا زعيمًا تاريخيًّا، فيما الحاجةُ قصوى والتربةُ خَصْبةٌ ليَنبُتَ فيها ومنها أكثرُ من ثورةٍ وأكثرُ من زعيم في دولةٍ واحِدة. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا يَكُن لكُم وطنٌ غيري لا يَكُن لكُم وطنٌ غيري



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon