حدثني مؤلف كتاب «سيد اللعبة... هنري كيسنجر وفن الدبلوماسية في الشرق الأوسط» مارتن أنديك، السياسي الأميركي المخضرم والمحنك، الذي عمل مساعداً لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط وسفيراً لدى إسرائيل، عن محادثات غير مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران بمساعدة قطر وعمان، وقال: «هناك تفاهم ليس حول رفع العقوبات، بل إلغاء تجميد بعض الأموال في مصارف كوريا الجنوبية وبعض المصارف في دول أخرى، مقابل تجميد إنتاج حوالي 50 في المائة من تخصيب اليورانيوم وإطلاق سراح السجناء».
سألته: وهل يحق لإسرائيل القلق؟ يجيب أنديك: «قال بنيامين نتنياهو لحكومته، إنه يراقب ما يجري، لكن لم يعبّر عن أي اعتراض. لا أعرف ما إذا كان تلقى تأكيدات من إدارة الرئيس جو بايدن. إنه يشتري الوقت لكنه حتى الآن لم يقم بحملة ضد ما يجري». فسألته: إذن متى ستدعوه الإدارة الأميركية لزيارة واشنطن؟ يجيب: «كان الرئيس بايدن واضحاً جداً، حتى يتوصل نتنياهو إلى توافق في الآراء حول الإصلاح القضائي، أو حتى يتخلى عنه بالكامل فهو ليس مرحباً به في واشنطن. وطالما أنه مصر على مواصلة بعض ما يسميه إصلاحات يبدو أنه سيمر وقت طويل قبل أن يأتي إلى واشنطن».
قلت له: هناك قلق من أن يصبح الانفجار الجديد في الضفة خارجاً عن السيطرة، والبعض يتخوف من انتفاضة جديدة! يرد أنديك بأنه يرى أن الانتفاضة بدأت إنما بشكل مختلف عن سابقاتها، اليوم هناك نوع من العصيان من قبل شبان عاطلين من العمل لجأوا إلى السلاح، وهم يشنون هجمات باستمرار، ونرى الجيش الإسرائيلي يدخل إلى المخيمات، لأن الأمن الفلسطيني لا يديرها. هذه الحلقة من العنف مستمرة منذ ستة أشهر وسوف تزداد شراسة.
ويشكك أنديك بأن يعطي نتنياهو الضوء الأخضر لهجوم شامل لأنه يميل إلى الحذر، ثم إن الجيش الإسرائيلي قال إنه إذا دخلنا حتى النهاية سنتورط، وستكون غاراتنا أكثر فاعلية وخطورة. ويضيف: أما إذا مات الكثير من الإسرائيليين سيتعرض نتنياهو لضغوط قوية من اليمين المتطرف لإنقاذ حكومته، عندها قد يتصرف، لكنني أعتقد أنه سيتردد كثيراً في فعل ذلك.
سألت أنديك: هل ما زلت تؤمن بحل الدولتين، أم ترى حلاً آخر، أم لا حلَّ إطلاقاً؟ يجيب أن «مشكلة الحلول الأخرى أنها تديم الصراعات، ولكن في الوقت الحالي فقَد حل الدولتين المصداقية إذا لم نقل كل مصداقيته، لكنني أعتقد أنه الحل الوحيد». وأضاف أن «المشكلة أننا لا نملك الطريقة من حيث نحن الآن إلى ذلك الحل، نحتاج إلى خطوات صغيرة تتضمن إعطاء أراضٍ حيث توجد الكثافة الفلسطينية إلى السلطة الفلسطينية، وهي بالتالي تستطيع القيام بتبادل الأراضي، لكن نشاط المستوطنات يزعزع وينسف هذا الأمر». وسألته: كيف نوقف هذا النشاط؟ يقول: «من الصعب عمله ولكن هناك مزيجاً من الجزرة والعصا قد يفيد، وهذا يتطلب من إدارة بايدن والمجموعات الدولية العمل معاً وإبلاغ إسرائيل بأن عليها أن توقف هذا النشاط. يعرف الإسرائيليون أنه لا يمكن لهم الحصول على السلام الشامل والضم معاً، ونلاحظ أن الدول العربية التي وقعت على اتفاقية أبراهام تبتعد عن إسرائيل بسبب نشاط المستوطنات».
وسألته: لكن بعض الوزراء الإسرائيليين يريدون تحويل اتفاقيات أبرهام إلى قضية دينية؟ يجيب: «بالطبع، وإذا استمروا على هذه الطريق فإن إرث نتنياهو سيتدمر، وإذا كان لا يريد ذلك فعليه أن يقرر ماذا يريد». هل يريد السلام الشامل أم يريد أن يأخذ الضفة الغربية مع 2.5 مليون فلسطيني فيها؟ يضيف أنديك: «علينا أن نقول للإسرائيليين يمكنكم أن تختاروا ما بين السلام الشامل، وضم الضفة، لأنه لا يمكنكم الحصول على الاثنين معاً».
سألته: هل تتفق مع ريتشارد هاس حول دور أميركا بأن عليها أن تنهي إجازتها من التاريخ؟ يجيب: «إن دور أميركا في الشرق الأوسط مهم، وكذلك دورها مهم في آسيا وأوروبا، لكن لا يمكننا فعل كل شيء، في الشرق الأوسط علينا أن نجد طريقة لفعل الأكثر بالأقل، وعلينا أن نصبح قادرين على أن نركز على تدخل الصين في آسيا، وروسيا في أوروبا، وفي الوقت نفسه لتهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط. من جهة أخرى يرى أنديك أن الإيرانيين يريدون في الوقت الحالي تهدئة الأوضاع إنما سيستغلون الوقت لتقوية قبضتهم على العراق وسوريا ولبنان». وقال: «أظن أنه إذا استغل الإيرانيون النيات العربية الحسنة، فإن الأمور لن تتحسن أو تتقدم. أما إذا كانوا صادقين مع العرب فسيتوضح هذا وستنتج عنه أمور إيجابية. أنا متشائم ولا أعتقد أن الإيرانيين قد يتغيرون. هناك تكتيك من قبل الطرفين».
استوضحته ما إذا كان يعني بأن الإيرانيين يقسمون العالم العربي إلى قسمين: دول الخليج ويقيمون معها علاقات جيدة، وفي الوقت نفسه يفرضون نفوذهم على العراق وسوريا ولبنان؟ يجيب: «هذا ما يريدونه، لكن السنّة العرب غير مستعدين لقبول ذلك».
وسألته: هل ترى حرباً مع لبنان، وهل لبنان قادر على تحمل حرب أخرى بخاصة الآن؟
فأجاب: «كلا، لبنان لا يتحمل، وآمل بألّا تحصل حرب، أتمنى أن يستمر ردع (حزب الله) لكن... ستكون هناك مأساة رهيبة على لبنان، لأن هذه المرة ستكون حرباً أفظع بكثير، وآمل بأن يستمروا بتجنب هذه الحرب. لكن هناك حدوداً للتهديد الكلامي. ولا أرى أن إيران مهتمة في تجنب الحرب، أعتقد أن الإيرانيين مستعدون للذهاب إلى الحرب مع إسرائيل»!
كررت كلامه: إيران مستعدة للذهاب إلى الحرب؟ فأكد أنديك: «نعم عندما يكون الوقت مناسباً، لا أعتقد أنهم يريدون الحرب الآن ولكن يريدونها. هم واقعيون ويريدون حرباً في وقتها ولبنان سيكون الضحية».
سألته: كيف تصف 100 عام للعالم مع هنري كيسنجر؟ يقول: «اعتَقَد كيسنجر أنه يستطيع أن يجعل منطقة الشرق الأوسط مستقرة وآمنة عبر توازن القوى ما يعني إيجاد طريقة لإرضاء مصر وسوريا بعد حرب 1973. وبالتفاوض لانسحاب إسرائيلي، الأمر الذي غيّر الوضع في المنطقة بطريقة دراماتيكية لأنه أخرج مصر من الحرب، وعندما أصبحت مصر خارج الصراع صار من الصعب على أي دولة أخرى أن تفكر بالذهاب إلى الحرب ثانية».
يواصل أنديك: «تلك كانت عبقرية كيسنجر، بسحبه مصر خارج معادلة الحرب، وأوجد شروطاً جديدة وفتح أبواباً بين إسرائيل ومصر، ثم بين إسرائيل والأردن». لنبقَ في عالم كيسنجر وعن موقفه من الصين وحلف الناتو من دون أوكرانيا وهل تؤيده في ذلك؟ يجيب أنديك: «يقول كيسنجر إنه بعد الحرب يجب أن تصبح أوكرانيا جزءاً من الناتو وأنا أتفق معه في ذلك». أضفت عليه سؤالاً: إذن متى ستنتهي الحرب؟ قال: «أبعد مما تعتقدين، ولا أتوقع هذه السنة مع الأمل في العام المقبل (جرى الحوار قبل تمرد قائد «فاغنر» في نهاية الأسبوع الماضي)... لكن إذا تحولت إلى حرب استنزاف فستأخذ وقتاً طويلاً جداً».
سألته: ما موقف كيسنجر من الصين، هل تعتقد أنه ستحدث مواجهة عسكرية يوماً ما بين أميركا والصين؟ أجاب: «آمل لا، لكن هذا ممكن. نقطة التوتر عالية، إنما الطرفان يبحثان عن طرق للاتصال، وآمل بأن يؤدي ذلك إلى طرق للتعاون. أظن أن هناك مجالاً للتعاون بين أميركا والصين، وهو الشرق الأوسط، لأن الصين لا تريد التحكم والسيطرة على المنطقة مثل إيران، بل تريد حماية مصالحها في الخليج والاستقرار، تريد تأمين تدفق النفط إليها، والاستقرار أيضاً هو ما تريده أميركا في الخليج العربي، وبإمكانهما أن تجدا وسيلة للتعاون بينهما».