بقلم - منى بوسمرة
يكون احتفال روسيا بذكرى انتصارها على المانيا النازية في الحرب العالميّة الثانيّة بممارسة الإنتصار على الذات أوّلا وليس بتدمير بلد جار مثل أوكرانيا وتشريد شعبها. يعني ذلك التصالح مع الحقيقة والواقع بكلّ وضوح. تقول الحقيقة أنّ روسيا كانت طرفا في الحرب العالميّة الثانية ولعبت دورا أساسيا في هزيمة ادولف هتلر وجيوشه وألمانيا النازيّة، فيما يقول الواقع انّها خسرت الحرب الباردة التي بدأت مع نهاية الحرب العالميّة الثانيّة في العام 1945... وانتهت بسقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989 ثمّ الإعلان رسميّا عن انهيار الإتحاد السوفياتي مطلع العام 1992.
تكمن مشكلة الرئيس فلاديمير بوتين في انّه يقرأ التاريخ بطريقته الخاصة. الأخطر من ذلك كلّه، أنّه يرفض الإعتراف بارتكابه حسابات خاطئة في أوكرانيا التي غرق الجيش الروسي في وحولها بعدما كان يعتقد جنرالاته انّ مسألة القضاء عليها وتغيير النظام فيها لن يستغرقا سوى بضعة ايّام.
لم يجد فلاديمير بوتين ما يقوله للروس في ذكرى الإنتصار في الحرب العالمية الثانية (يوم التاسع من أيار – مايو) غير السعي الي تبرير الحرب التي شنهّا في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي. هذه حرب دخلت شهرها الثالث قبل أسبوعين. لم يعد لدى الرئيس الروسي ما يقوله سوى كلام من نوع أنّه "فعل كلّ ما يستطيع" من اجل تفادي مواجهة مع الغرب، خصوصا عبر القنوات الديبلوماسيّة، لكن "بلدان حلف شمال الأطلسي (ناتو) رفضت الإستماع لنا. كانت لديها خطط مختلفة". اكّد ان بلدان حلف شمال الأطلسي "كانت تنوي غزو أراضينا التاريخيّة بما في ذلك (شبه جزيرة) القرم". اتهم صراحة بلدان الحلف بـ"الإعداد لمثل هذا الغزو" وصولا إلى تفسير ما حدث بانّ "مواجهة النازيين الجدد كانت امرا محسوما" معتبرا انّ "روسيا ردّت على العدوان بشكل مسبق". خلص إلى القول: "كان القرار الذي اتخذناه واجبا، وهو قرار اتخذ في الوقت المناسب، وهو القرار الوحيد المتاح امام بلد سيّد وقوي ومستقل. كانت روسيا تواجه تهديدا غير مقبول".
إنّ كلّ كلمة صدرت عن الرئيس الروسي، الذي شهد عرضا عسكريّا ضخما في موسكو، قابلة للنقاش. لكن ما العمل مع رئيس دولة يرفض الإعتراف بانّه اخطأ في حساباته، بما في ذلك اكتشافه متأخّرا أنّ ما اقنعه به المحيطون به عن أن الأوكرانيين يعشقون روسيا، ليس صحيحا وأنّ هدفهم التخلّص من النظام القائم. لم يستوعب أنّ أوكرانيا التي انفصلت عن الإتحاد السوفياتي، بعد انهياره، صارت أوكرانيا أخرى بعدما تعرّف شعبها إلى معنى الحرّية وذاق طعمها... مثله مثل شعوب دول أوروبا الشرقيّة التي كانت تعاني من نير الإستعمار السوفياتي حتّى العام 1991.
وصل الأمر بالأوكرانيين، وهم في اكثريتهم من الأرثوذكس، إلى تحولّهم إلى شعب حضاري، أي انّهم مسيحيون، انتخبوا فلوديمير زيلنسكي رئيسا للبلاد، على الرغم من انّه يهودي.
فاجأ الأوكرانيون فلاديمير بوتين. كانت حساباته في غير محلّها، بما في ذلك الإستخفاف بقدرة الجيش الأوكراني على المقاومة والصمود في وجه آلة حرب روسيّة، أقلّ ما يمكن ان توصف به انّها آلة متخلّفة. لا يمكن تبرير الأخطاء المرتكبة سياسيا باخطاء أخرى من نوع تزوير التاريخ والحديث عن عدوان يجري اعداده يستهدف القضاء على روسيا و"عظمتها".
لا شكّ انّ الغرب ارتكب أخطاء كثيرة، خصوصا بعد تغاضيه عن التدخل الروسي في جورجيا ثم استعادة روسيا شبه جزيرة القرم بالطريقة التي استعادتها بها في العام 2014. الأخطر من ذلك كلّه كان السكوت الغربي، خصوصا الأميركي، عن تحوّل روسيا إلى طرف في الحرب التي يشنّها النظام الأقلّوي السوري على شعبه. اعتقد فلاديمير بوتين انّ اوكرانيا مجرّد سوريا أخرى وستكون حقل تجارب للسلاح الروسي الذي استهدف المواطنين السوريين العزل.
يظلّ الخطأ الأكبر الذي ارتكبه فلاديمير بوتين هو ذلك الخطأ المرتبط بردّ الفعل الأوروبي على غزو أوكرانيا. حسنا، سيراهن الرئيس الروسي الآن على انقسامات اوروبيّة، لكنّه لا يريد ادراك انّ مثل هذه الإنقسامات، التي تشمل بلدا مثل هنغاريا يمتلك حسابات خاصة به، تظلّ لا قيمة لها بعدما اتخذت المانيا قرارا بالتخلي تدريجا عن الإعتماد على الغاز الروسي.
لم يقدّر فلاديمير بوتين في أي وقت ما الذي تعنيه العزلة الدوليّة لروسيا وماذا يعني قرار الدول الصناعيّة السبع (G7) القاضي بالعمل من اجل الاستغناء مستقبلا عن الطاقة (النفط والغاز) التي مصدرها روسيا.
اكثر من أي وقت، عزلت روسيا نفسها عن العالم وعن كلّ ما هو حضاري فيه. ما الفائدة من التشدق بالشعارات وعظمة التاريخ الروسي، فيما تبيّن انّ فلاديمير بوتين لا يمتلك شجاعة الإعتراف بانّه اخطأ. لم يخطئ في حق الشعب الروسي فحسب، بل اخطأ في حقّ الأوكرانيين والسوريين أيضا. تبيّن، اقلّه في سوريا، أنّه لا يستطيع ان يكون اكثر من أداة ايرانيّة في بلد وضعته "الجمهوريّة الإسلاميّة" تحت وصايتها ووصايات الميليشيات المذهبيّة المختلفة التابعة لـ"الحرس الثوري". باتت ايران، في ضوء ما حصل في أوكرانيا، تستقوي على روسيا في سوريا!
في ذكرى الإنتصار الروسي في الحرب العالميّة، وهو انتصار ما كان ليتحقّق لولا إنضمام اميركا إلى الحلفاء الأوروبيين لمواجهة هتلر واليابان، ثمّة دروس لا يمكن تجاهلها. من بين هذه الدروس أنّ العالم الغربي لا يمكن ان يتحمّل دولة مثل روسيا تهدّد بالسلاح النووي وسلاح قطع الغاز والنفط عن دول أخرى تعتمد عليها في الحصول على الطاقة.
تستطيع روسيا، التي حجم اقتصادها اصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي ممارسة كلّ أنواع القتل في سوريا، لكنّ أوروبا تبقى شيئا آخر. هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع. هل يستطيع فالتأثير الحاسم والمتعاظم الذي تحدثه رؤية محمد بن راشد على مستقبل المنطقة، لا يقف عند ما يقدمه سموه من فكر استشرافي واستباقي لما يحمله المستقبل من تحولات، لأن الأكثر أهمية أن قيادة سموه تتفرد في المنطقة بوضع هذا الفكر موضع التنفيذ العملي بمثابرة ومبادرات كبرى تدعم الاستثمار في الإنسان العربي، وباتت اليوم تخلق واقعاً جديداً مبشراً وتنعكس بنتائج إيجابية كبيرة على المنطقة وشبابها وواقعها.
مبادرة «مليون مبرمج عربي»، التي أطلقها سموه، وتوّج حمدان بن محمد، أمس، الفائزين في منافساتها المحفزة، تقدم اليوم بنتائجها الاستثنائية، إلهاماً عظيماً حول قدرتنا على التغيير عربياً وتجسير الفجوات مع العالم المتقدم، فقد أتاحت هذه المبادرة، وهي واحدة من مبادرات محمد بن راشد المعرفية الكثيرة، الفرصة لمليون عربي لدخول العالم الرقمي، وحققت أحلام عشرات آلاف المبرمجين العرب في مختلف أنحاء العالم، ومكنت مبرمجين من 50 دولة شاركوا في التحدي الذي أطلقته من تطوير 257 مشروعاً.
جميع هذه الأرقام بالغة الأهمية بالنظر إلى أن لغة البرمجة أصبحت هي لغة المستقبل، ولكن الأهم ما أضاءه حمدان بن محمد بتأكيده أن مخرجات ونجاحات هذه المبادرة ستكون ركيزة لكثير من الإنجازات العربية القادمة في عالم التكنولوجيا، فالبرمجة باتت ركيزة لاقتصاد المعرفة، والمستقبل، كما يشدد سموه: «ستكون الكلمة العُليا فيه لمن يملك التفوق العلمي».
فتحت هذه المبادرة النوعية منذ انطلاقها آفاقاً واسعة للشباب العربي نحو الابتكار والإبداع لخدمة المجتمعات العربية، واستطاعت بنجاح كبير أن تبني أساساً قوياً يمتد إلى جميع القطاعات التكنولوجية المرتبطة في هذا المجال، خصوصاً مع المشاركة القياسية التي شهدتها والتي وصلت إلى مليون و58 ألف عربي وعربية من 80 بلداً، كما شارك في هذه المبادرة الأولى من نوعها في المنطقة والعالم أكثر من 3600 مدرب معتمد من مختلف أنحاء العالم، ولم تكتفِ المبادرة بذلك بل جمعت المشاركين على تنافس فاعل في وضع أفكارهم ومعرفتهم موضع التطبيق لترسخ بنتائج التحدي النوعية وما أخرجه من تطبيقات متميزة، درساً عظيماً بقدرة الشباب العربي على الإنجاز والتغيير وتحسين مجتمعاتهم.
بل وأخرجت المبادرة نموذجاً ملهماً للعالم تبنّته الدول الأخرى، حيث تم تبنّي المبادرة في الأردن بإطلاق مبادرة «مليون مبرمج أردني»، وتم الإعلان عن مبادرة «مليون مبرمج أوزبكي» بالشراكة مع حكومة الإمارات، كما رسخت المبادرة شراكات مهمة مثل شراكتها مع «مؤسسة حسين سجواني - داماك الخيرية» التي دعمت أهداف المبادرة، وهي مؤسسة تركز على دعم فرص التعلم وتطوير المهارات لتحفيز المشاركة الاجتماعية والاقتصادية المربحة.
التأثير المعرفي البالغ لمبادرات محمد بن راشد، يؤشر إلى أن امتداده سيكون له نتائج إيجابية كبيرة وسريعة في مختلف القطاعات المؤثرة في واقع مجتمعات المنطقة، ومستقبل أجيالها، وهي لا تعمل فقط على سد الفجوات بين عالمنا والعالم المتقدم، بل أصبحت تقدم إسهاماً حضارياً وإلهاماً على المستوى العالمي بأسره.لاديمير بوتين التصالح معهما... أم يعتقد ان الصين، التي تمتلك حسابات خاصة بها، ستهب لنجدته؟