بقلم - سعد الدين ابراهيم
الشبق هو قمة الشهوة، والشهوة هى الرغبة العارمة فى إشباع إحدى اللذات الإنسانية الأساسية، وهى الرغبة الجنسية. وقد انتقل تعبير الشبق من عالم الجنس إلى العوالم الأخرى- مثل السياسة، والفن، والاقتصاد. وفى هذه كلها يُشير إلى نفس المعنى، وهو الرغبة العارمة، بلا حدود ذاتية، أى بلا كوابح من داخل الفرد نفسه.
وربما لا يُضارع أو يقترب من شهوة الجنس فى قوتها، إلا شهوة السُّلطة، أى الرغبة العارمة فى الوصول إلى موقع الشهرة والتأثير فى الآخرين من الأقربين والأبعدين. ويرتبط بتِلك السُّلطة التحكم فى سلوك البشر المُحيطين بصاحب تِلك السُّلطة، وبالموارد المادية والمعنوية والرمزية، التى تُضفى على صاحبها الإحساس بالعظمة والتفرد على من حوله من البشر، كما تجعل معظم هؤلاء البشر على استعداد للخضوع والطاعة، والامتنان والاحترام، أو الخوف والرهبة من صاحب تِلك السُّلطة.
ولأهمية وضرورة السُّلطة فى علاقات البشر ببعضهم البعض، فقد نظمت المجتمعات الإنسانية ظاهرة السُّلطة من حيث حجمها، وطُرق الحصول عليها، وتقنين أو ضبط توزيعها، وطُرق استخدامها، وتفويض أفراد أو جماعات باستخدام تِلك السُّلطة، لتنظيم وتسهيل سُبل الحياه للبشر.
وقد صاغ عُلماء الاجتماع والسياسة نظريات حول هذا الموضوع، أطلقوا عليها نظريات العقد الاجتماعى (Social Contract). وبعد ذلك قننها السياسيون ورجال القانون فيما نُطلق عليه الآن مصطلح الدستور الذى هو بمثابة الوثيقة الأساسية فى صياغة وتنظيم السُّلطة وتداولها سِلميًا، لتحقيق الحدود المُثلى من المنافع والطمأنينة لمعظم من يعيشون فى مجتمع، على أرض الوطن.
المقدمة السابقة، أعلاه، هى لتفسير ظاهرة ثورات الربيع العربى، التى بدأت فى مطلع القرن الحادى والعشرين فى تونس، وليبيا، ومصر، والجزائر، والسودان، واليمن، وسوريا. ثم لتفسير عودة المظاهرات الجماهيرية فى ربيع وصيف 2022 فى كل من تونس والسودان، احتجاجًا على استئثار رأس الدولة بسُلطة القرار، أو تلكئه فى تنفيذ بعض بنود العقد الاجتماعى، الذى كان قد جاء بمقتضاه إلى السُّلطة.
لقد كان الدكتور قيس سُعيّد أستاذًا جامعيًا مرموقًا فى الجامعة التونسية، وكانت صفات النزاهة، والاستقلال، والتواضع، والزُهد، هى ما جعلت معظم التونيسيين يرتضون به رئيسًا للجمهورية، بعد عشر سنوات من القلاقل والتوترات التى صاحبت ثورة الياسمين، وسنواتها الأولى، على أمل أن يقود السفينة التونسية من الأمواج المُضطربة إلى المياه الصافية الهادئة، ويُسلّم السُّلطة إلى حكومة مُنتخبة جديدة، خلال فترة انتقالية معلومة. ولكن الأستاذ الأكاديمى، الزاهد، النزيه، بعد شهور معدودات، لعبت السُّلطة بوجدانه ورأسه. فبدأ يُماطل، ويخترع الأعذار لتأجيل الوفاء بالاستحقاقات السياسية التى يتوقعها وينتظرها الشعب التونسى. وكان انضمام الاتحاد التونسى للشغل إلى القوى الشعبية الأخرى التى انخرطت فى الاضطرابات، إشارة لمنَ يعرفون المجتمع التونسى، بأن ساعة الخطر بدأت دقاتها السريعة. فذلك الاتحاد هو أقدم التنظيمات النقابية التونسية والعربية على الإطلاق، وتعود بدايته إلى مرحلة النضال من أجل الاستقلال، ضد الاستعمار الفرنسى لتونس، فى النصف الأول من القرن العشرين. وتعنى مُشاركة ذلك الاتحاد فى الإضراب إصابة الحياة العامة التونسية بالشلل التام. لذلك يتوقع المُراقبون للمشهد التونسى، سُرعة استجابة الرئيس قيس سُعيّد لتلبية الاستحاقات التى يتوقعها شعبه.
ويصدق نفس التحليل السابق أعلاه على الحالة السودانية. فخلال الانتفاضة الشعبية السودانية، التى أنهت أكثر من ثلاثين عامًا من حُكم المُستبد عُمر البشير، كان تدخل الجيش السودانى إلى جانب الجماهير السودانية، لإجبار البشير على الرحيل، تطورًا محمودًا، حقنًا للدماء التى كان يتوقعها أن تنهمر، لو كان البشير قد أمعن فى الإصرار على إشباع شبق السُّلطة فى داخله وفى داخل أتباعه المُقربين الذين استغلوا الإسلام، وادعوا الحديث باسمه، وتسبّبوا فى انفصال جنوب السودان، ذى الأكثرية غير المسلمة، حين أصر نظام البشير على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على كل السودانيين، حتى من غير المسلمين.
المهم لموضوعنا هو أن قيادة الجيش السودانى مُمثلة فى شخص قائده، الفريق عبد الفتاح البُرهان، قد انحازت للاحتجاج الشعبى ضد عُمر البشير، حتى سقط من عليائه. وكبادرة امتنان للجيش وقائده، ارتضت قوى الاحتجاج الشعبية السودانية تقاسم السُّلطة والتناوب المدنى- العسكرى، خلال مرحلة انتقالية معلومة.
ولكن غواية السلطة تسببت فى المماطلة للوفاء بالاستحقاقات المتفق عليها خلال الأسابيع الأولى للانتفاضة الشعبية ضد عمر البشير.
وعلى الله قصد السبيل.