بقلم - سعد الدين ابراهيم
المجتمع المدنى هو حصيلة المبادرات والجهود التى يقوم بها الناس لخدمة أنفسهم وخدمة الآخرين من حولهم، دون انتظار ربح مادى أو جزاء أو شكور.. وبهذا المعنى فهو يشمل الجمعيات، والروابط، والتعاونيات، والنقابات المهنية، والأحزاب السياسية، والحريات الجماهيرية.. من ذلك مثلًا مبادرة إنشاء مستشفى المواساة بالإسكندرية، والجامعة المصرية فى أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين كانت هناك أمثلة وثمرات للمجتمع المدنى المصرى.
وقد نشط المجتمع المدنى، خاصة حينما تخلت الحكومة عن بعض مسؤولياتها فى فترة الاحتلال البريطانى طيلة سبعين عامًا من 1882 إلى 1954.. فكانت مؤسسات المجتمع المدنى هى المُنقذ من الضلال والإهمال.
ولكن مع قيام ثورة 1952، وسعيها للتحرر من الهيمنة الأجنبية وهيمنة الطبقى العليا المصرية، التى كان بعض رموزها من البشوات والبكوات والوجهاء يبادرون ويرعون العديد من الجمعيات الخيرية ومؤسسات النفع العام، وشَك ضباط الثورة فى أن مثل تِلك المُبادرات هى عودة مُقنّعة لاستعادة النفوذ.. فقد أصدرت عِدة قوانين وضعت قيودًا شتى على المجتمع المدنى المصرى.
ويبدو أن صفة «مدنى» أصبحت فى عقول أولئك الضباط كما لو كانت معادية لما هو عسكرى.. من ذلك أنه خلال افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب، عام 1985، اجتمع الرئيس الراحل حسنى مبارك مع عدد من المثقفين، الذين دعاهم د. سمير سرحان إلى حوار مع الرئيس، وحين أعطانى الكلمة، شكوت للرئيس من استمرار القوانين المعقدة للمجتمع المدنى، فقاطعنى الرئيس مبارك بغضب استنكارى: ولماذا تكرهون العسكريين؟!، فأجبته إن العسكريين هم إخواننا وأبناؤنا، وهم على عيوننا ورؤوسنا، فهم حُماة الشعب والوطن، فابتسم مبارك وهمهم بعبارة: أيوه كده.
واستكملت أنا الحديث فى شرح وتفسير المجتمع المدنى على النحو الذى بدأت به فى الفقرة الأولى من هذا المقال، فرد الرئيس مبارك مداعبًا: مثلما تفعل تلميذتكم سوزان فى جمعيات الخدمات المتكاملة!.
فضجت القاعة ضاحكة، لمعرفتهم أنه كان يشير إلى زوجته السيدة سوزان ثابت مبارك!، ثم اتجه هو بالحديث إلى د. آمال عثمان، وزيرة الشؤون الاجتماعية فى ذلك الوقت، والتى كانت تجلس فى الصف الأول مع بقية الوزراء الذين كانوا يحضرون اللقاء، طالبًا منها أن تقدم له تقريرًا حول الموضوع.
ولم ينعدل القانون، مع ذلك، إلا بعد عشر سنوات، وبعد عِدة انتقادات دولية وصلت إلى حد امتناع السيدة مارى روبنسون، رئيسة وزراء أيرلندا لمصر، عن حضور المؤتمر الدولى للسكان عام 1994 إلا بعد تعديل قانون الجمعيات فى مصر!.
إننى أسترجع كل ذلك التاريخ بمناسبة إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى فى أوائل هذا العام أن عام 2022 سيكون عام المجتمع المدنى (الأهرام 15 /1 /2022)، فى ختام مؤتمر منتدى شباب العالم بمدينة شرم الشيخ، فى نسخته الرابعة.
لقد أيقن رئيس الجمهورية ذلك من خلال أسفاره فى الخارج وخبرته المباشرة كأحد أبناء محافظة المنوفية التى تنشط فيها جمعية «المساعى المشكورة» لما يُقارب القرن من مشروعات تطوعية شتى.. وكانت تِلك الجمعية إحدى مُبادرات عبدالعزيز فهمى باشا وعدد من أبناء المنوفية، وتخرج فى مدارسها مئات ممن أصبحوا فيما بعد سياسيين ومِهنيين مرموقين مصريًا وعالميًا - ومنهم الرئيسان الراحلان أنور السادات وحسنى مبارك، وربما عبدالفتاح السيسى، لذلك فإن المقياس المُقارن للتنمية الشاملة، الذى يستخدمه البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة فى تقريره السنوى، يشمل عدد منظمات المجتمع المدنى ونسبتها إلى كل ألف من السكان فى المائتى دولة التى يشملها التقرير.
وكالعادة، كانت البلدان الإسكندنافية -السويد، والدنمارك، والنرويج، وفنلندا- هى الأسبق فى إدراك الأهمية القصوى للمجتمع المدنى فى تطوير بلدانها. وقد وصل ذلك فى البلدان الأربعة لدرجة تنازل حكوماتها عن دورها الخدماتى المباشر لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدنى.. فقد اتضح لحكومات وبرلمانات تِلك الدول أن المجتمع المدنى هو الأقدر على القيام بذلك النشاط بكفاءة أعلى ونفقات أقل. فتِلك الجمعيات هى الأقرب للناس، حيث يعيشون حتى لو كانوا بعيدًا عن العواصم والمُدن الكُبرى، وهى بمثابة الشرايين الحية فى الجسم الاجتماعى، وبالتالى فهى الأكثر إحساسًا بنبضه، والاستجابة لأدق احتياجاته.
فهنيئًا لمصر.. بصيحة رئيسها عبدالفتاح السيسى أن يكون عام 2022 عامًا للمجتمع المدنى.. وستدخل تِلك الصيحة فى ميزان حسنات مصر.
والله على ما أقول شهيد.
وعلى الله قصد السبيل