القاهرة - لحسن حداد
لم يعرف المغرب زخما متواليا من الإصلاحات مثل التي عرفها خلال العقدين الأخيرين. على المستوى السياسي، نجد إحدى سمات هذا الإصلاح في التدشين لعهد من التناوب على السلطة الحكومية، وانخراط حزب إسلامي في حقل التباري السياسي والانتخابي، والمصالحة مع الماضي، والتدشين لتصور جديد للسلطة، ووضع برنامج طموح لجهوية ولا مركزية متقدمة، ووضع دستور جديد يؤسس لمرحلة جديدة من تقاسم السلطة والفصل بين السلطات واحترام حقوق الإنسان، والتقعيد لدولة المؤسسات وربط المسؤولية بالمحاسبة. على المستوى الاقتصادي، تمثلت الإصلاحات في سن سياسة الاستراتيجيات القطاعية، وخلق الأقطاب الجهوية، ووضع برنامج للبنية التحتية، والاستمرار في عملية الخوصصة، وتخفيض الضغط الضريبي، وتشجيع الاستثمار، ودعم التصدير، ودعم تنافسية المقاولات، وتحسين محيط الأعمال، والبحث عن أسواق جديدة والانفتاح التجاري والاقتصادي على إفريقيا.
أما على المستوى الاجتماعي فشملت الإصلاحات وضع مدونة جديدة للأسرة، واعتماد خطة عشرية للطفولة، ووضع برامج طموحة للتشغيل، وسن سياسة إصلاحية مستمرة لمنظومة التربية والتعليم، والتقدم على مستوى مؤشرات وفيات الأطفال والأمهات، ووضع برنامج طموح لمحو الأمية، ودعم منظمات المجتمع المدني، ووضع سياسة ناجعة لإدماج المهاجرين، واستهداف بعض الطبقات الفقيرة عبر دعم مباشر مشروط، والاهتمام بالمتقاعدين دوي الدخل المحدود والأرامل، والرفع من قيمة ومنح الطلبة، وإصلاح التقاعد، والتقدم على مستوى محاربة الفقر والهشاشة...
كل هذه الإصلاحات جعلت من المغرب الذي نعرفه الآن مغاير للمغرب الذي كنا نعرفه قبل عشرين أو ثلاثين سنة. والمؤشرات تدل على ذلك. فالمغرب أصبح أكثر ديمقراطية وحرية وانفتاحا مما كان عليه قبل ثلاثة عقود؛ ودولة الحق والقانون أصبحت واقعا لا غبار عليه رغم بعض التراجعات والانتكاسات هنا وهناك؛ ودور المؤسسات والسلط بدأ ينضج قي إطار ممارسات جيدة جديدة ومتجددة استلهاما لدستور 2011؛ والممارسة السياسية بدأت تخلو من شوائب تدخل السلطة ومحاولة هندسة الحقل الانتخابي والسياسي رغم تراجعات 2015 و 2016.
النمو المضطرد للاقتصاد جعل الناتج الداخلي العام يتضاعف خلال العقدين الأخيرين؛ وتطورت القطاعات الغير الفلاحية بطريقة جعلت الاقتصاد الوطني يتحول إلى اقتصاد يخلق قيمة مضافة لابأس بها؛ ونمت القدرة التصديرية للمغرب بشكل ملحوظ وأصبحت مصادر الدورة الاقتصادية متنوعة بين ما هو صناعي وفلاحي وخدماتي وتكنولوجي ومالي الخ...وتحسن محيط الأعمال بشكل جعل المغرب أكثر جاذبية للمستثمرين؛ وظهرت أقطاب جهوية متنافسة على مستوى أكادير وطنجة والجهة الشرقية وفاس-مكناس ومراكش-الصويرة بالإضافة إلى محور القنيطرة الجديدة وهي أقطاب أصبحت قادرة على خلق الثروة والشغل والمساهمة الفعلية في الاقتصاد المحلي والجهوي. جل السياسات القطاعية أعطت ثمارها حيث أصبح المغرب أكثر تنافسية في مجال السيارات وصناعة الطائرات والخدمات عن بعد والصناعات التحويلية والصناعات الغذائية والسياحة والصناعة التقليدية والصيد البحري واللوجستيك وغيرها.
على المستوى الاجتماعي، تقلص معدل البطالة إلى مادون 10% خلال العشر سنوات الأخيرة؛ وانخفض معدل الفقر من 25 % سنة 2004 إلى 8,2 سنة 2014؛ وتزل معدل وفيات الأطفال إلى ما دون الثلاثين في الألف سنة 2010 (بعدما كان 75 في الألف في 1987)؛ وانخفضت نسبة وفيات الأمهات عند الولادةً من 112 وفاة لكل مائة ألف ولادة سنة 2010 إلى 72 وفاة سنة 2016 (اي انخفاض بمعدل 35٪ في غضون ست سنوات) وارتفعت نسبة الأمل في الحياة عند الولادة إلى 75 سنة بعدما كانت فقط 47 سنة في 1962؛ وانخفض معدل الأمية من 87 % سنة 1960 إلى 32 % سنة 2014. والمغرب كان من الدول الرائدة في ردم الهوة المبنية على النوع الاجتماعي فيما يخص ولوج الفتيات الى المدرسة، بل صارت هؤلاء يتفوقن على الذكور على مستوى التحصيل والإنجاز.
تطورات مهمة عرفها المغرب خلال العقدين الأخيرين. ولكن مع كل هذا نجد أنه رغم الإصلاحات والتطور الهائل الذي تعرفه البلاد من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية نجد بالمقابل تذمرا لدى فئات عريضة من المواطنين، وعدم رضا على النخبة السياسية، وتنامي الاحتجاجات، وسخط عارم في أوساط الشباب، وتدني الانخراط في الحياة السياسية، وغياب الثقة في نجاعة وفعالية الإصلاحات. إن فهمنا هذه المفارقة سيكون ذلك هو مدخل لفهم نواقص النموذج التنموي الذي أفرزه عهد الإصلاحات.
ما السبب في ذلك؟ كيف نشرح هذه المفارقة المتمثلة في إصلاحات جريئة وإنجازات ملموسة وغير مسبوقة وفي نفس الوقت تنامي عدم الرضا وتكاثر الاختجاجات والنفور من العملية السياسية؟ هل هذا يعني أن مسلسل التنمية أقصى فئات عريضة من الشعب؟ أو هل الانتظارات تكبر كلما تحسنت أحوال المواطنين؟ هل أن النخبة التي قامت بالإصلاحات في واد والمجتمع في واد آخر؟ سنتطرق للجواب عن هذه الأمور في المقال المقبل. ما هو أساسي هو أن المغرب تغير إلى أحسن في كثير من أحواله وتحرر الشعب وصار أكثر تعبيرا عن مشاغله وهمومه خصوصا عبر الاحتجاجات وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. من المحتمل جدا أن المشاكل كانت أكبر ولكن عدم القدرة على التعبير عنها بحرية ودون قمع وعدم وجود وسائل مماثلة لتلكم التي هي الآن متاحة هو الذي حال دون إيصال صوت الشعب بنفس القوة والزخم في الماضي. هذا ما سنراه