توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

للشَعْرُ أدوارُ أخرى

  مصر اليوم -

للشَعْرُ أدوارُ أخرى

بقلم: نيفين مسعد

لعل القارئ يتساءل في نفسه عن ماهية هذا العنوان الغريب الذي يحمله مقال اليوم، وعن معنى أن للشعر أدوارا أخرى، ومعك كل الحق عزيزي القارئ إن أنت اندهشت لأول وهلة فالجملة غامضة بذاتها وتحتاج إلى شرح حتى نفهم أي أدوار يؤديها الشَعْر بخلاف دوره الجمالي المعروف، لكن دعنا نستمع معاَ أنت وأنا لحكاية صاحبتنا ففيها شرح ما غَمُض .
***
كانت صاحبتنا تتسكع في هذا المول التجاري الضخم بحي الڤردان في بيروت، شُطّار أهل لبنان يعرفون كيف يقبضون على أسرار البهجة ثم يرخون قبضتهم فإذا هي تتطاير على شكل فراشات ملونة بسيطة جدا وجميلة جدا جدا، اللبنانيون يعرفون كيف يبهرونك وكيف يخرجون آلاف الليرات من جيبك فإذا خطر لك أن تندم أو تتراجع هزمت شطارتهم ترددك وسرّوا عنك بالجملة المريحة التالية: معوَضين! . راحت تتسكع صاحبتنا إذن بين المحال دون هدف، تشم رائحة البن المحوج تنبعث من محل للقهوة على هذه المَيلَة كما يقولون فتنتبه مراكز وعيها وتتفتح، ومن أحد محلات العطور على المَيلة الثانية يأتيها عطر نفاذ فيدغدغ مشاعرها ويهدهدها، وصاحبتنا تترك نفسها دون مقاومة لصراع الروائح يحتدم في داخلها إلى أن يحسمه العطر الأقوى، وآه من العطر إذ يكون قويا .
***
بينما هي في هذه الحال انتبهت على صوت موسيقى صاخبة تصدر من الطابق الأرضي، لم تهتم، صيحات شبابية وصفافير وضحكات، لم تهتم، متسوقون يطلون على "الزمبليطة " أسفلهم ويأخذون صورا بكاميرات الموبايلات ثم يتأملونها في رضا، لم تهتم، بائعة وثانية وثالثة أغلقن محلاتهن ونزلن إلى حيث الضجة والصخب ...الله ! ماهي الحكاية بالضبط ؟ . أطلّت صاحبتنا بدورها على المشهد من عل فرأت زحاما كثيرا ، عشرات النساء من كل الأعمار يسلمن رؤوسهن إلى مصففي الشعر بالعشرات، هكذا انجلى الأمر إذن.. إنه مهرجان كبير لتصفيف الشعر، لا لم يكن مهرجانا كبيرا لتصفيف الشعر، بل كان مسابقة تتنافس فيها النساء على من تقص خصلة أطول من شعرها. تقص النساء شعورهن دفعة واحدة؟ نعم .. ولماذا ؟ حتى تتضافر خصلة مع خصلة مع خصلة لتصنع شعرا يستر رؤوسا عارية لنساء يقاومن المرض اللعين.. السرطان. أمسكت بصاحبتنا رعشة جبارة وساقتها قدماها إلى الطابق الأرضي سوقاَ .
***
صنع المنظمون حلبة مغلقة على عدد كبير من النساء، حلبة تحدّها الشرائط من الجهات الأربع وتطير من فوقها بالونات جميعها باللون البمبي، إنه لوننا نحن النساء أو إنه اللون الذي أريد لنا أن نصطبغ به. على المقاعد المتناثرة هنا وهناك داخل الحلبة كانت تجلس فتيات مثل القمر ولأغلبهن شعر طويل. عرِفَت صاحبتنا فيما بعد أن كثيرات من هؤلاء الفتيات يطلن شعورهن عمدا على مدار العام استعداد لهذا اليوم المحدد من أيام شهر أكتوبر، لا يوجد تفسير محدد لاختيار أكتوبر بالذات لتنظيم هذا المهرجان، التوقيت ليس مهما، ليس مهما أبدا أما المهم فإنها الفكرة النبيلة. وقفَت طفلة في حدود العاشرة تنتظر دورها في القص وقد أمسكت بيد جدتها التي سبقتها فيما أم الطفلة تجلس على المقعد، يا الله جدة وأم وحفيدة يشاركن في المنافسة، خصلة الجدة رفيعة بالتأكيد وضعيفة مثلها لكنها لازمة لإثبات الحضور .
***
خذَلَت صاحبتنا بلاغتها ونادرا ما يحدث ذلك، هي في العادة تكون قادرة علي أن تجد العبارة المناسبة للموقف المناسب، لكن هذا الموقف بدا استثنائيا. في الزاوية كانت تحاول شابة في العشرينيات طرد دموعها بسرعة بعد أن أمسك مصفف الشعر بخصلتيها الطويلتين ورفعهما في الهواء أمام الجميع فتعالى الصفير والتصفيق، حقيقية جدا هذه الدموع فالشابة الباكية أتت إلى هذا المكان محبّة وزاهد وراغبة في المساعدة لكن صورتها اختلفت في المرآة .. نعم اختلفت كثيرا. همس أحد مصففي الشعر في أذن الفتاة الباكية ببضع كلمات فانفرجت أساريرها، ترى ماذا قال لها؟ صرتِ أجمل؟ أتصدقين أني أغبطك كرجل ؟ أو تبكي من كان لها مثل قلبك ؟ كل القول وارد وكله يحنو ويربت ويدعم. بخفة كبيرة كان يتحرك شبان يرتدون زيا موحدا عبارة عن تيشيرتات سوداء، علي صدر التيشرتات عبارة مكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية تقول "أنا قصيت"، وعلى ظهرها عبارة أخرى تقول "شعرك ..ابتسامتها"، وقعُ العبارة الأخيرة لا شأن له بعلم البلاغة فهي ليست بليغة بالتأكيد، لكن وقعها مصدره بساطتها وإيجازها المُعبّر وكأن خصلة الشعر أشبه ما تكون بخيط واصل بين امرأتين إحداهما تعطي والأخرى تتلقى .
***
خطف أحد الشباب المتطوع ساندويتشا من صينية كبيرة مرصوص عليها كم هائل من الساندويتشات الأرجح أنها مهداة من جهة فاهمة وداعمة. أغلب هؤلاء الشباب لم يفطر أو لم يتروق بعد كما في اللهجة اللبنانية المحببة رغم أن الساعة تجاوزت الثالثة عصرا. جميل جدا الجو في هذه الحلبة المغلقة حيث كل شيء مصنوع بحب، وحيث الذات تتراجع قليلا إلى الخلف، نحتاج أحيانا إلى أن نؤخر ذواتنا إلى الوراء حتى نبصر الآخرين. لا تدري صاحبتنا كم من الوقت أمضت، ولا كم خصلة نبيلة رأتها تُقَص، لكنها في لحظة معينة وجدت نفسها دون وعي تتحسس أطراف شعرها، اصطخبت في رأسها عشرات الأفكار، قالت لها فكرة: تقدمي وشاركي، وقالت لها فكرة أخرى بل انصرفي فلا حاجة بهم لخصلتك العجوز، يا الله ! لقد تحولت نفسها إلى ساحة لمعارك لا أول لها ولا آخر، فتارة تنشب معركة بين الروائح وتارة أخرى تدور معركة بين الأفكار، حَسَمَت الأمر دون مجهود لأنها كانت مهيأة للحسم، انحنت لتمر من أسفل الشريط ودخلت إلى قلب الحلبة والزحام. جلست على أقرب مقعد صادفها وأشارت لأحد المصففين بأن يجعلها زبونته التالية فأومأ إيجاباَ وشعرت بالنصر، من قال إن شَعرَ المرأة لا همّ له إلا الغواية ولا دور له سوى الإغراء ؟ لا لا أبدا .. إن للشعر أدوارا كثيرة لكن الأمر يتوقف على الزاوية التي تنظر منها إليه .

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

للشَعْرُ أدوارُ أخرى للشَعْرُ أدوارُ أخرى



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon