توقيت القاهرة المحلي 05:29:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بيروت أو المدينة القصيدة

  مصر اليوم -

بيروت أو المدينة القصيدة

بقلم :نيفين مسعد

حلت ذكرى رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في ٩ أغسطس الجاري ولبنان الذي أحبَه جريح، لبنان الذي أتاه لاجئاً مرتين وغادره طائعاً مرة في ١٩٤٩ومجبراً مرة أخرى في عام ١٩٨٢، وفيما بين اللجوء إلى لبنان والخروج منه مارس درويش ذاتيته بكل أبعادها شعراً وسياسة وحباً للبشر والحجر، ومن بعد الخروج الأخير منه لم يعد شعره كما كان ولا عاد هو نفسه كما كان، صار أقل حماساً ونضالاً وتمرداً، جرّب أساليب إبداعية جديدة لا تشبهه ولا تشبه جمهوره، ثم أغمض عينيه في منفاه الاختياري بعيداً جداً عن بيروت التي اعتبرها ذات يوم نجمته وخيمته، وترك الجميع وذهب.
***
لم يكن محمود درويش أول شاعر يقع في حب بيروت.. سبقه إلى حبها كثيرون واستفزت للكتابة عنها كثيرين، من نزار قباني إلى محمد مهدي الجواهري، ومن عمر أبو ريشة إلى سميح القاسم، ومن أحمد شوقي إلى محمد سليمان الأحمد (أو بدوي الجبل)، فثمة تناظُر كما يقول قائل بين مدينة بيروت والقصيدة، لماذا؟ لأن هذه المدينة العجائبية الصغيرة جامعة للتناقضات بشكل يفوق الوصف ففيها كل شيء وعكسه، ومع أن بعض هذا التناقض يوجد في مدن أخرى عديدة (كالغنى والفقر، والتقليدية والحداثة، والانصياع والعصيان.. إلخ)، إلا أن التناقض في تمامه لا يتحقق إلا في بيروت، وعلى هذا الوتر لعب الجميع فالشعراء يجذبهم غير المألوف. كمثل الكرة في يد بهلوان قدير راح محمود درويش يتلاعب بثلاثة حروف لا أكثر: باء وحاء وراء ويصنع من خلال إعادة ترتيبها كلمات تلخص ماهية بيروت، وتلك الكلمات هي: بحر وحبر وربح وحرب. عند محمود درويش تبدو بيروت مدينة لها أكثر من وجه، إنها بحرٌ يتغير لونه ما بين فصل وآخر من فصول المناخ والسياسة أيضاً فيزرّق ماؤه في أبريل وتحمّر صفحته عند الغضب، وهي حبرٌ للفصحى والتعبير والكتابة والبوح، إنها ربحٌ يقتات من تجارة السلاح واقتصاد الريع وشطارة أهل لبنان المعروفة، وهي حربٌ أولها دماء وآخرها دماء وحصادها قبض ريح، إنها المدينة التي تختزل الوطن وتسافر من جنوبها لشرقها ومن شرقها لغربها فإذا كل شيء مختلف: العقائد والزعماء والانتماءات والمعمار والأذواق. ويصف نزار قباني المحب الأكبر لبيروت "ست الدني" فيقول عنها: بيروت العدل وبيروت الظلم، وبيروت القاتل والشاعر، وبيروت العشق وبيروت الذبح من الشريان إلى الشريان. مفهوم موقف نزار.. مفهوم تماماً فلقد أعطته المدينة اللغز أجمل أبياته الشعرية وأخذت منه حبيبته بلقيس في واحد من انفجاراتها التي لا تنتهي فتركته هكذا في مسافة بين بين: يحب بيروت لأنه لا يوجد قبلها شيء أو بعدها شيء أو مثلها شيء ولأنها خلاصات الأعمار وحقل اللؤلؤ، ويهاب دائرة النار من حولها وكراهية كل جميل الكامنة في النفوس. ومثل نزار يحار إبراهيم طوقان في تصنيف بيروت فيقول عنها: لا أنت سنبلة ولا أنت قنبلة، هل رأينا كيف ينقلنا حرف واحد من بر لبر ومن معنى للنقيض؟ لكأن الجناس في اللغة العربية لم يُخلق لغير بيروت، ثم يعود طوقان ليقول عنها: وهذه بيروت لا تحيا ولا تموت.. دائماً هذا البين بين حاضر في وصف بيروت، حاضر في التعبير عن ارتباك المشاعر في حضرة بيروت، وها نحن نجد عمر أبو ريشة المتيم هو الآخر ببيروت ولبنان يقف حائراً ما بين الإفصاح عن مشاعر حبه وكتمها إذ يقول: لبنان ما خبأت نوازعي.. أتراكَ فيها عاذلي أم عاذري؟
***
لكن حرام أن نختزل سر الجاذبية الشِعرية لبيروت في تناقضاتها، فلدى بيروت من مكامن السحر كنوز. خذ عندك هذا الأريج الفريد الذي يميز به محمود درويش رائحة بيروت عن روائح سواها من مدن العالم وهو الشاعر الطوّاف كثير الترحال، أريج مصنوع من روائح الشمس والبحر والدخان والليمون. آخذُ نَفَساً عميقاً من الهواء وأحسُ كما لو أن عبق بيروت تسرب من بين سطور كتاب درويش "ذاكرة للنسيان" فملأ مسامي والخلايا مع أنه عبق مخصوم منه روائح كثيرة، روائح شجر الأَرز وضِيَع التفاح ونسيم الجبل وشواء الكستناء ومشتقات الفتنة. أحن في هذه اللحظة إلى بيروت حنيناً لا مزيد عليه، وتنتابني مشاعر الغربة في البعد عنها كما لو أن أرواح ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي تلبستني فإذا بي أتغزل مع جبران خليل جبران في أشجار الأرز الحبيبة وأتماهى مع رومانسيته وهو الطير المهاجر البليغ إذ يقول: لبنان هل للراسيات كأرزه.. تاج ينضرّها على الآباد؟. إن حدث وتماهيت مع جبران فعذري معي فها هو أحمد شوقي أمير الشعراء يتغزل في لبنان قائلاً: لبنان مجدك في المشارق أول.. والأرض رابية وأنت سنام .
***
بيروت هي تلك الروح الشرقية التي تنقص باريس وهذه الصبغة الأوروبية التي تنقص الشرق، هي هذا التنوع الذي لابد أنك واجدٌ نفسك في نِتفة زغيرة منه وهذا الانسياب المتدفق في بلاد الله خلق الله للبيارتة واللبنانيين فناً وصحافةً وأدباً وترجمةً، هي هذه الحرية التي تتهكم عليها وتسخر منها ومع ذلك فإنك تحلم بها ليل نهار، هي الضجيج والسهر وهي الحياة إن أنت أخذت قراراً بأن تعيش، هي العاصمة/ العالم القادرة على التشبيب ورد الصبا والشفاء من حلم المشيب كما قال الأخطل الصغير. إنها ذلك كله وأكثر كثيراً، فلست أدري وقد حلت قبل أيام ذكرى رحيل محمود درويش أحد عشاق بيروت ومن بين مريديها المعجبين هل هو من ذكّرني بها أم تراني أنا التي تذرعت بذكراه كي أربت على كتف بيروت وأمد لها يداً وأهمس إن لياليها الحلوة قادمة ولو بعد حين؟ هذا وذاك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بيروت أو المدينة القصيدة بيروت أو المدينة القصيدة



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon