بقلم - نيفين مسعد
بعد ثلاث سنوات من التدخل العسكرى الروسى فى سوريا، هاهو أحد أعقد صراعات الربيع العربى يوشك أن يضع أوزاره الميدانية. يعود الفضل فى ذلك إلى الإستراتيچية الذكية التى اعتمدها فلاديمير بوتين فى التعامل مع الصراع السورى والقائمة على مجموعة من المرتكزات، أولها تجزئة هذا الصراع إلى عدة ساحات للعمليات والبدء بتحقيق تقدم عسكرى فى كل منها، يتبع ذلك خفض التوتر بإبرام هدنة مع الفصائل التى تقبل بها مع توفير ممر آمن لنزوح المدنيين والمسلحين الراغبين فى المغادرة. وثانيها تكوين تحالف مع القوى الإقليمية ذات التأثير المباشر على الأرض واستحداث مسار مواز لمسار چنيڤ. وثالثها تحقيق توازن مرن بين المصالح المتضاربة لكل الأطراف بما فى ذلك الطرف الإسرائيلي. وهكذا فبعد أن فقد بشار الأسد سيطرته على مساحة واسعة من الأرض واضطر للحديث عن سوريا المفيدة، هاهى المعارضة المسلحة تتحول إلى جيب كبير فى محافظة إدلب مع بعض البؤر المحدودة المتاخمة لها.
تعد معركة إدلب هى ثانى أكبر معارك الصراع السورى بعد معركة حلب، فإدلب إذا جاز التعبير تحولت إلى مكّب لآلاف العناصر المسلحة النازحة من مختلف أنحاء سوريا. لكن معركة إدلب التى يجرى الإعداد لها تدور فى سياق يختلف عن السياقين الدولى والإقليمى اللذين أحاطا بمعركة حلب. فعلى الرغم من قوة التحذيرات الدولية من الكارثة الإنسانية المُحتملة فى الحالتين، إلا أنه يمكن التقاط بعض المؤشرات التى تنم عن تفهم مبررات الهجوم على إدلب على نحو لم يشهده التحضير لمعركة حلب، فهاهو ستيفان دى ميستورا مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا يتحدث عن وجود عدد كبير من المسلحين الأجانب فى إدلب بينهم ما يقدر بنحو عشرة آلاف إرهابى ينتمون لجبهة النصرة وتنظيم القاعدة، وهاهو دونالد ترامب الرئيس الأمريكى يسجل فى واحدة من أحدث تغريداته أنه لا يجب على الرئيس بشار الأسد مهاجمة إدلب بتهور. يتضح إذن أنه فى ظل وجود هذا العدد الضخم من الإرهابيين فى إدلب، ومع تمسك جبهة النصرة بعدم إلقاء سلاحها، تصبح القوة العسكرية هى الخيار الوحيد للتعامل معها بشرط تجنب الأسلحة الكيماوية وتقليل الخسائر الإنسانية. وعلى المستوى الإقليمى هناك تغير مهم فى موقف تركيا بتصنيف النصرة جماعة إرهابية بعد السكوت الطويل عنها نتيجة المصالح المتبادلة بين الطرفين. هذا التغير اضطرت إليه تركيا تحت تأثير عاملين: الضغط الدولى على النصرة وبالتالى حاجة تركيا لترك مسافة معها من جهة ، والخلاف مع الولايات المتحدة مما يُعَظِّم من قيمة التعاون التركى مع روسيا من جهة أخري. بطبيعة الحال تعارض تركيا الهجوم العسكرى على إدلب كما سبق أن عارضت الهجوم العسكرى على حلب، فالوضع الراهن فى إدلب يحقق لها نفوذا كبيرا على الأرض ويُوفر عمقا أمنيا لوجودها فى عفرين، لكن فى مواجهة الإصرار الروسى والإيرانى أيضا على مكافحة الإرهاب تكون خيارات تركيا محدودة.
لن تكون معركة إدلب قصيرة الأجل، ليس فقط بسبب الكثافة السكانية للمحافظة وتداخل مناطق نفوذ الجماعات المسلحة فيها ووجود امتدادات لتلك الجماعات خارج حدود المحافظة (كما فى الريف الشمالى لحلب)، لكن أيضا لأن هذه المعركة يُفتَرَض أن تكون هى المعركة الأخيرة ، وفى هذا النوع من المعارك تحشد كل الأطراف أوراقها لتعظيم مكاسبها. ستستخدم تركيا ورقة المعابر الحدودية للمدى الأبعد، إذ يعنى تسليمها السهل للنظام أن يتم تجريد تركيا من أحد مصادر قوتها، وهذه النقطة بالذات هى التى تبقى على شعرة معاوية بين تركيا وبين النصرة. وستستثمر إيران علاقتها بالنظام, هذه العلاقة التى تَعمَق بُعدُها العسكرى قبل أيام بالاتفاق المُوَقّع ببن البلدين، ولا ننسى أن المشاكل التى تواجهها إيران فى العراق تجعلها أحرص ما تكون على تأمين وضعها فى سوريا. وستوظف الولايات المتحدة الورقة الكردية، فهذه الورقة هى المبرر المعلن للوجود الأمريكى فى سوريا، لكنها أيضا الورقة التى تعقد علاقة تركيا بالولايات المتحدة أكثر مما هى معقدة، فإذا كانت الولايات المتحدة قد دخلت سوريا لحماية الأكراد فإن تركيا دخلت لتقليم أظافرهم. أضف لهذا التبارز بأوراق الضغط بين القوى المؤثرة فى المشهد السوري، أن حسم معركة إدلب يعنى إثارة قضية مستقبل المسلحين الأجانب ، وهناك دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا طوّرت آلية للعدالة الانتقالية للتعامل مع هذه القضية، لكن دولا أخرى كثيرة ليست لها تلك الآلية بعد، فماذا يكون مصير هؤلاء؟ .ثم إنه لامفر من أن تفضى المعركة لنزوح الآلاف من إدلب ، وهذا عبء يتحاشاه الجميع خصوصا تركيا الأقرب لمسرح العمليات، وقد سبق أن أضر هذا الملف بمصداقيتها بعد إطلاقها النار على النازحين السوريين من عفرين وهى ليست فى وارد تكرار التجربة. وهناك مل ف إعادة الإعمار: من يعمر ماذا وقبل انطلاق المسار السياسى أم بعده؟..
هكذا فحين بدأ المقال بأن الصراع السورى على وشك أن يضع أوزاره الميدانية فإنه يقصد أن الصراع وصل إلى ساحته الأخيرة لكنه سيمكث فيها اسابيع وربما شهورا، فكل من شارك فى هذا الصراع حاضر فى حلبة إدلب لتحديد موقعه فى سوريا الجديدة، والأهم من ذلك هو جعلها سوريا المفيدة لمصالحه.
نقلا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع