بقلم - نيفين مسعد
تبنى تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة نظرة شاملة لقضايا الحقوق والحريات الفردية، أى أنه ليس تقريرا خاصا بالمرأة وحدها، لكن المرأة حظيت بنصيب معتبر فيه لكونها لُب الجزء الثانى من التقرير المخصص للمساواة، ففى هذا الجزء نوقشت مسائل كثيرة تتصل بالجنسية وشروط الزواج والواجبات الزوجية والعلاقة بالأبناء . وفيما له صلة بمسألة الميراث فلقد أسس التقرير دعوته للاجتهاد فيها على ما يمكن وصفه بمجموعتين من الأسباب، المجموعة الأولى ذات طبيعة اجتماعية -اقتصادية ويدخل فيها إقبال النساء على التعليم وخروجهن للعمل وبالتالى تغيُّر التقسيم النوعى للأدوار لاسيما مع مشاركة المرأة فى تحمُّل المسئوليات المالية للأسرة، كما يدخل فى هذه المجموعة التحول الذى لحق بالأسرة وانتقل بها من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية وهو تحول خفف من تأثير الضغوط العائلية عليها وساعدها على التمتع بمزيد من الاستقلالية كما يقول التقرير. أما المجموعة الثانية من الأسباب فإنها ذات طبيعة شرعية ومن قبيلها أن قيمة المساواة بين الرجل والمرأة من صميم الدين، وأن توزيع التركة يتوقف على معايير مثل درجة قرابة الوارث من المتوفى والمسئوليات المادية التى يتحملها الوارث الذكر، وليس على التمييز بين الجنسين بدليل تعدد الحالات التى ترث فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر، كما أن من الأسباب الشرعية اجتهاد الصحابة فى العديد من الأمور رغم وجود النص، ومن ذلك قيام الخليفة عمر بن الخطاب بإقرار نصيب إضافى للزوجة فى تركة زوجها لو أنها أسهمت فى تكوين هذه التركة (حق الكد والسعاية ). والواقع أن بعض الحجج التى ذكرها التقرير تحتاج برهانا فليس ثمة ارتباط شرطى بين الانتقال للأسرة النووية وبين تقلص الضغوط الاجتماعية عليها فى موضوع التمييز ضد المرأة، فهذه الضغوط تنبع من البيئة المحيطة بغض النظر عن شكل الأسرة.
على أى حال اجتهد التقرير فى تقديم ثلاثة بدائل لقضية ميراث المرأة، الأول هو المساواة القانونية فى الميراث بين الرجل والمرأة بغض النظر عن موقع المرأة الوارثة أكان هو موقع البنت أو الأخت أو الأم.. إلخ . والثانى هو الأخذ بنظام مزدوج تكون فيه المساواة القانونية فى الميراث بين الرجل والمرأة هى المبدأ، أما الاستثناء فيكون وراثة الذكر مثل حظ الأنثيين. والثالث هو تمكين المرأة نفسها من الاختيار بين المساواة فى الميراث أو اللامساواة فيه، فإن اختارت المساواة ضمنها لها القانون، علما بأن التقرير تعرض لوضع المرأة التى تخشى الإفصاح عن رأيها أو تعجز عن الإفصاح عن رأيها أو تتوفى قبل والديها ونظّم كل حالة منها بشكل مختلف، بل إنه فى الحالة الواحدة قدم التقرير أكثر من اقتراح فَلَو سكتت الفتاة عن إبداء رأيها فى مسألة الميراث يجوز اعتبار سكوتها تفضيلا للمساوة أو تفضيلا لعدم المساواة.
وفى التعليق على معالجة موضوع الميراث فى التقرير يمكن القول من جهة إن التقرير حرص على تنظيم أكبر عدد ممكن من الحالات، وهذا جيد لكنه أثار إشكاليات لم يعالجها كما فى حالة سكوت الفتاة، إذ كيف أن من لم تبح برأيها فى المساواة لشدة خوفها سوف تستمتع بالتناصف فى الميراث لو فُسر سكوتها بأنه يعنى الموافقة؟ ومن جهة أخرى فإنه فى المفاضلة بين البدائل الثلاثة التى عرضها التقرير: المساواة وتطبيق الشرع وسؤال صاحبة الشأن مال واضعوه إلى البديل الأول، فى حين أيد رئيس الدولة البديل الثانى وأحال الأمر لمجلس نواب الشعب ، وهذا ينقلنا إلى السؤال الأهم فى هذا المقال وهو : فى حال تبنى مجلس النواب موقف رئيس الجمهورية وأقر البديل الثانى فماهى الإضافة التى يكون التقرير قد قدمها طالما أنه بدونه من حق الموّرث أن يهب لورثته من الإناث ما يشاء فى حياته؟ قلت فى مقال الأسبوع الماضى إن تعددية البدائل التى يطرحها التقرير دليل على تحليه بالمرونة واحترامه آراء المختلفين معه ، لكن النقطة هى أن من كان قد قرر أن يساوى فى الميراث عن طريق الهبة سيعزز موقفه بالقانون فى حالة صدوره، ومن كان يعتزم تطبيق الشرع فإنه لن ينظر لهذا القانون، ومن كان ضد توريث النساء أصلا لن يطبق لا القانون ولا الشرع، فما الجديد؟
إن المجتمع التونسى يواجه مجموعة مركبة من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التى لا تخفى على أحد ، وسياسة التبارز بين أنصار التقرير وخصومه عبر التظاهر فى الشارع سياسة محفوفة بالمخاطر، وذلك لأن وسائل التواصل الاجتماعى التى تنجح فى حشد الجماهير ليست قادرة بالضرورة على أن تُفَرِقها بسهولة. ولعل إدراك الرئيس السبسى تعقيدات المشهد الداخلى هو ما دعاه إلى أن يمسك العصا من المنتصف، وهذا الموقف الرمادى بالتأكيد لم يرض كل أنصاره بعد أن رفع السقف عاليا وبادر بنفسه قبل عام واقترح المساواة فى الميراث ثم عاد وترك الخيار مفتوحا للعمل بالمساواة أو لا، لكن أنصار السبسى اضطروا لدعمه فى مواجهة خصومه السياسيين.
عمليا لم يتغير شيء فى موضوع المساواة فى الميراث فى تونس، لكن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة ألقى حجرا فى المياه العربية لا التونسية فحسب وفتح بابا للنقاش أظنه لن يُغلَق.
نقلا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع