بقلم - نيفين مسعد
ترسم الأعمال الدرامية صورة كوميدية للمثقفين خاصةً اليساريين منهم، فتُظهرهم في حياتهم العادية وهم يتكلمون بلغة مقعّرة لا يفهمها سواهم ويستخدمون مفردات لغوية صعبة للتعبير عن أبسط الأشياء. ومَن ذا الذي ينسى الفيلم التلڤزيوني اللطيف "فوزية البورجوازية" الذي كتب قصته الكاتب الساخر أحمد رجب وفيه أن الشاعرة اليسارية عنايات التي تسكن في أحد الأحياء الشعبية، عندما اختلَفَت مع جارتها فوزية في نفس العمارة وكانت زوجة الأسطى بدّار الحلاّق لم تجد وصفًا تصفها به إلا بأنها بورجوازية؟. بطبيعة الحال احتارت الجارة فوزية في فهم معنى كلمة بورجوازية التي لم تسمع بها من قبل، وتطوّع أولاد الحلال لإشعال الموقف فأفهموها أن الكلمة تنطوي على إيحاءات غير أخلاقية، وتطوّر الأمر بسرعة، ودخلَت السياسة مع الرياضة فانقسم أهل الحارة البسطاء إلى فريقين بحيث صار منهم مَن يدافع عن الرأسمالية والزمالك ويرمزون لهما بالبيت الأبيض، بينما يدافع آخرون عن الشيوعية والأهلي ويرمزون لهما بالكرملين، وكان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي أي قبل سنوات قليلة من تفكك الاتحاد السوڤيتي. أو مَن ذا الذي ينسى الفيلم السينمائي الشهير جدًا "السفارة في العمارة" الذي كتب قصته يوسف معاطي؟ في هذا الفيلم تعرّفنا على أسرة الدكتور شهدي وهي أسرة يسارية بكامل أفرادها بما في ذلك معاونة الأسرة الرفيقة الدادة أم عطيات. التقت هذه الأسرة صدفةً بالسفير الإسرائيلي ديڤيد كوهين فاشتعلَت غضبًا كما هو متوقع ووصفته بالاستيطاني التوسعي. بطبيعة الحال خلت مكتبة أسرة الدكتور شهدي إلا من كتب ماركس وجابرييل جارسيا ماركيز وأعمال تحكي عن نضال چيڤارا، ومع أن شريف صبري بطل الفيلم رجل جامعي ويعمل مهندسًا للبترول إلا أنه كان بعيدًا تمامًا عن الفكر اليساري بأعلامه ومفرداته وأجوائه. هذه الأعمال تثير حساسية البعض لأنها بمعنى معين تتهم المثقفين بالتعالي على الآخرين والانفصال عن بيئتهم، لكنها حساسية مَن لا يفصل بين الشاشة والواقع أو بين الإبداع الفني وتفاصيل الحياة اليومية، وإذا كان من الطبيعي أن كل فئة في المجتمع لها مفرداتها الخاصة فإن من الطبيعي أيضًا أن تكون المبالغة في إبراز هذه الخصوصية من أدوات المبدع حتى يتمكّن من خلق كوميديا الموقف.
• • •
تذكّرت هذا كله عندما حكى لي أحد المثقفين حكايته مع الهجمة الصيفية السنوية التي يشنها النمل على منزله في الكومباوند الشهير، فبدأ حكايته بالقول "هذه الحشرة أكّن لها كل الكراهية والاحترام". المدخل نفسه الذي استهّل به هذا المثقف كلامه مدخل خاص جدًا، فأن تحب النمل أو تكرهه مفهوم لكن أن تحترمه أو تحتقره فهذا جديد، وعندما استطرد صاحبنا في سرد تفاصيل معركته مع النمل تخيّلت كم كان يمكن لهذه التفاصيل أن تمثّل موضوعًا شيّقًا جدًا لعمل يكتبه أحمد رجب أو يوسف معاطي أو غيرهما من مبدعي فن السخرية. في نفس التوقيت من كل عام بل ومَن نفس المكان تقريبًا يبدأ الهجوم الكاسح للنمل على بيت الأستاذ فلان، ومع أن هذا الهجوم له طابع سنوي كما قال إلا أنه يفاجأ به في كل مرة، أو لعله يتمنى في قرارة نفسه أن تكون ذكرى معركة العام الذي قبله تنحكي ما تنعاد كما يقولون. وقع المحظور إذن وهاجمَت مئات النملات التي "تسربت من عيوبنا" على حدّ تعبير نزار قباني في هوامشه على دفتر النكسة فانتفض صاحبنا وقد تعكّر مزاجه على الصبح. حاول الأستاذ إيقاف الزحف غير المقدّس عن طريق الإطباق بكفيّه على سربَين متوازيين من أسراب النمل الذكي، لكنه فوجئ بأسراب جديدة تمامًا كما حدث في الحرب الكورية في مطلع خمسينيات القرن الماضي عندما هاجمَت قوات كوريا الشمالية مدعومة من الاتحاد السوڤيتي والصين- أراضي كوريا الجنوبية المدعومة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وفي كل مرة ظن فيها الجنوبيون أنهم قضوا على القوات الشمالية المهاجمة وأوقفوا زحفها، فوجئوا بأعداد جديدة من المهاجمين. وإزاء هذا الإخفاق في وقف مسيرة بل مسيرات النمل- انتقل صاحبنا لتنفيذ الخطة(ب) وهي مستوحاة من خطة إدارة العراق لمعركة مطار بغداد في عام ٢٠٠٣ بهدف صدّ العدوان الأمريكي الغاشم. تمثّلت هذه الخطة في إغراق أرض المطار بالمياه الغزيرة ثم توصيل الأرض بالكهرباء على نحو يضمن صعقًا فوريًا لقوات الاحتلال، وعلى هذا النحو نفسه غمر صاحبنا قوافل النمل بالمياه لكن من دون كهربتها بطبيعة الحال، وبينما تصوّر أن هذه الاستراتيجية الجديدة ستحقق الغرض المطلوب وتواجه الهجوم بهجوم مضاد، إذا بأسراب جديدة تظهر وكأنها جاءت لتنتقم. في معركة مطار بغداد تحدّث وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحّاف عن وجود خيانة حالت دون تنفيذ الخطة الجهنمية ودحر العدوان الأمريكي، وهذا وارد، لكن تُرى من أين أتت الخيانة في إدارة معركة النمل؟ سؤال صعب. على كل حال وقد وصل صاحبنا لما وصل إليه، وفشلَت الخطتان (أ) و(ب) في وضع نهاية للغزو، فإنه لم يكن هناك بد مما ليس منه بد.. اللجوء للسلاح الكيماوي! وهكذا امتدت يد صاحبنا لأول علبة مبيد حشري وجدها أمامه، وبدأ الرش. البعض لا يفهم إلا لغة القوة الغاشمة ولا ينصاع إلا لها، وهذا هو حال النمل فيما يبدو. انتهى الموقف على ذلك وانسحب النمل إلى خط الدفاع الثاني استعدادًا لشنّ حرب استنزاف بعد إعادة تجميع صفوفه من جديد، لكن أبدًا لن يُمكّن النمل من مأربه وسوف تتكفّل إحدى الشركات المتخصصة في إبادة الحشرات بتصعيد الحرب الكيماوية حتى النصر.
• • •
نحن نختزن في عقولنا ذكريات من واقع أحداث إما عشناها بأنفسنا أو عاصرنا معايشة آخرين لها وتأثّرنا بها. هذه الذكريات جاهزة دائمًا لاستدعائها عند الضرورة وعلى سبيل المقارنة بينها وبين الواقع، وهي لا تنفصل عن اهتماماتنا وبيئتنا وثقافتنا وشخصيتنا. وعندما قام سرب النمل بهجومه المدبّر في يوم من أيام شهر يوليو الحار فإنه قام بتحريك ذكريات صاحبنا المثقف عن الحروب والغزوات من كوريا إلى العراق ليهدينا تلك القصة الواقعية الطريفة.