توقيت القاهرة المحلي 11:05:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مِن زَرَعَ إلى كَفَرَ

  مصر اليوم -

مِن زَرَعَ إلى كَفَرَ

بقلم - نيفين مسعد

مهما تمّر السنون ونكبر ستظل بعض ذكرياتنا المدرسية حاضرة في أذهاننا، ولعلنا حتى نذكرها أكثر من تجاربنا الطازجة التي مررنا بها أمس وأول أمس. في كُتُب المرحلة الابتدائية كانت توجد شخصيتان شهيرتان هما عادل وسعاد وقد تطورت هاتان الشخصيتان لاحقًا مع أولادنا لتصيرا أمل وعمر، وهو تغيير طفيف وغير مهم فالأهم هو وجود الولد مع البنت لتكتمل صورة المجتمع. أما الأفعال التي كنّا ندرسها فكان منها فعلان متكرران هما: زَرَع وحَصَد، وكان مناخ الستينيات يساعد على ترسيخ معنى الزَرْع والحصاد فقد كانت مصر تعاصر في تلك الفترة نهضة زراعية وكذلك صناعية كبيرة. وبطبيعة الحال كانت دراسة هذين الفعلين مناسبة يربط لنا فيها مدرس اللغة العربية المعنى المباشر للفعلين مع المعنى غير المباشر الذي يشير إلى أن من يجتهد يجني ثمار اجتهاده وأن النجاح هو النتيجة الطبيعة للمذاكَرة.. كانت المعاني قريبة إلى تفكيرنا ونستطيع أن نصنع لها صورًا ذهنية تناسب أعمارنا وكانت ترسّخ فينا قيمًا نبيلة نحتاجها دائمًا .

• • •

قبل نحو أسبوع وصلنا على إحدى مجموعات الواتساب ڤيديو كارثي أرسله لنا زميل عزيز جعل التعليم قضية حياته بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو يؤلّف عن التعليم ويحاضر فيه ويروّج له إيمانًا منه بأنه لا نهضة بدون تعليم جيد. في الڤيديو القصير ظهرت طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها سبع سنوات وقد اصطّف أمامها نحو ثلاثين طفلًا في مثل عمرها أو قريبًا منه. أمسكَت الصغيرة بعصا خشبية وراحت تشير إلى أربعة أفعال مكتوبة على السبورة، وبصوت جهوري وبتكشيرة لزوم اصطناع الجدّية والوقار بدأت تقرأ الفعل الأول وتشكّله هكذا: ك فتحة كَ.. ف فتحة فَ.. ر فتحة رَ: كَفَرَ، وردد الصغار من بعدها كَفَرَ!!! إحساس غير مستغرب بالصدمة وأنا أسمع كورال الأطفال يتغنّى بفعل كَفَرَ.. يا نهار إسود كَفَرَ هكذا مرة واحدة. واصَلَت الصغيرة إدهاشنا وراحت بنفس الصوت الجهوري تصيح ومن ورائها الأطفال المساكين: ل فتحة لَ.. ع فتحة عَ.. ن فتحة نَ: لَعَنَ. لا لا.. كَفَرَ ولَعَن، أي شيطان أوحى لصاحب الكُتّاب الذي يدرس فيه هؤلاء الأطفال أن يعلمّهم أول ما يعلمهم فعلّي كَفَر ولَعَن؟ هل يفهم أصلًا أبناء السابعة معنى الكُفر وهل يحتاجون إلى استخدام فعل كَفَر في هذه السن وربما في حياتهم كلها أصلًا بالنظر إلى المعلومة البديهية التي تقول إن الفصل في أمور الكفر والإيمان يختّص به الله عزّ وجلّ؟ مذهل. انتقلَت المُدرّسة الصغيرة إلى فعل آخر: م فتحة مَ.. ر فتحة رَ.. ج فتحة جَ: مَرَج! نعم مَرَج؟ على مدار نحو ستين عامًا انقضت منذ تعلّمت القراءة والكتابة لم أستخدم في حياتي فعل "مَرَجَ" في أي جملة ولا احتجت لذلك أبدًا وأظنني لست وحيدة في ذلك، وعندما فاجأتني به المُدرّسة الصغيرة كان أول ما تبادر إلى ذهني ورود هذا الفعل في سورة الرحمن "مَرَج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان". نعم هذا الفعل موجود وهو في موضعه القرآني الذي أشرت إليه يجسّد عظمة الخالق في الخلط بين بحرين أحدهما مالح والآخر لا من دون أن يبغي أحدهما على الآخر فيفقده خواصه، لكن هل سيستخدم هؤلاء الصغار فعل مَرَج في حياتهم؟ أشك في ذلك كثيرًا، قد يستخدمون فعل خَلَط أو حتى مزَج لكن مَرَج مستبعد. أما آخر ما أتحفتنا به الطفلة إياها فكان العجب العجاب فعلًا، صاحت المدرّسة الصغيرة: ن فتحة نَ.. ك فتحة كَ.. ح فتحة حَ: نَكَحَ!! في تلك اللحظة أدرَكتُ حجم معاناة زميلي الذي وَهَب حياته لخدمة التعليم ثم إذا به يشاهد حصة للغة العربية يتم فيها تدريس التكفير واللعن والمرج والنكاح، وفي نهاية الڤيديو يثني المدرس على الطفلة الصغيرة ويدعو أقرانها للتصفيق لها فيفعلوا معجبين.

• • •

أربعة أفعال إذن هي: كَفَرَ ولَعَنَ ومَرَجَ ونكَحَ تختزل لنا بشكل دراماتيكي الفارق بين تعليم النصف الأول من القرن الماضي وتعليم الألفية الجديدة. الكتاتيب القديمة التي خرّجت لنا أعلام الفكر والأدب في الحياة الثقافية المصرية وفي مقدمتهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فماذا سوف تخرّج لنا كتاتيب هذه الأيام؟ كلنا شهود على الاختلالات العميقة في الشخصية المصرية وتحولاتها بما يتجاوز بمراحل ما ذهب إليه الدكتور جلال أمين قبل سنوات طويلة في كتابه الشهير: ماذا حدث للمصريين؟ يتزايد المد السلفي أكثر فأكثر حاملًا معه كل المظاهر التي تستحق القلق وتستدعي التحرك السريع: التفسيرات المنغلقة للدين واحتكار الحقيقة المطلقة.. الانشغال بالشكل عن الجوهر وبمراقبة الآخرين عن الاهتمام بالنفس.. افتعال المعارك اليومية حول قضايا وهمية وشَغل الرأي العام بها.. تبرير العنف والدفاع عن مرتكبيه بمبررات ما أنزل الله بها من سلطان.. إقامة جدران عازلة بين أبناء الوطن الواحد لداعي الاختلاف في الدين. مطاردة المبدعين وتشجيع تصحّر الأرواح.. إلخ. والنتيجة الطبيعية هي تعليم أبناء السابعة كيف يكفرّون ويلعنون المختلفين عنهم، وتطبيعهم مع مفردة النكاح تهيئة لهم ليكوّنوا أسرًا ويفتحوا بيوتًا في هذه السن الصغيرة.

• • •

إن هذا الڤيديو مجهول المصدر هو مجرد علامة على الطريق، فحتى وإن كان القصد منه مجرد الشهرة فهذا لا ينفي أن هناك عقولًا تفكّر بنفس الطريقة وتهتم بنفس الأفعال الأربعة لكننا لا نأخذ بها علمًا بالضرورة عن طريق اليوتيوب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مِن زَرَعَ إلى كَفَرَ مِن زَرَعَ إلى كَفَرَ



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon