بقلم - نيفين مسعد
هذا مقال نسائى بامتياز، أعنى أنه لن يجد اهتماما إلا من النساء بل وحتى من بعض النساء، لكن لا بأس من الكتابة أحيانا عن شيء مشترك مع جزء من الآخرين.
فى كل مرة خطفت الألوان المبهجة نظرى كانت علامة كيت سبيد تٰذَيِل المنتج الذى أتفحصه، قدرة فائقة على مزج الألوان التى عشنا وتربينا على أنها متنافرة فإذا بها تتآلف وتمتزج بكل ارتياح، اللون الفوشيا مع البرتقالى كلاهما من الألوان الفاقعة التى يحسن إطفاء وهجها بلون محايد كاللون الرمادى أو بلون داكن كاللون الأسود، لكن كيت سبيد كانت قادرة على أن تجمع الوهجين معا فى حافظة نقود صغيرة أو فى حقيبة يد مبتكرة أو فى مظلة مزركشة أو فى دفتر للكتابة أو..أو..، فإذا بالعين تتجول على المُنتَج من الخط الفوشيا إلى الخط البرتقالى بسلاسة تامة كما تنتقل الأذن من نغمة لأخرى من نغمات البيانو بمتعة لا مزيد عليها ولا منافس لها. ألوانها تضج بالحياة، تكاد تنطق، تقول لك أنا هنا، أصفرها بزهوة أشعة الشمس وأخضرها بطزاجة عشب الربيع وأزرقها لا يُقاوَم وأحمرها متقد. قالوا فى وصف كيت سبيد إنها إمبراطورة الموضة وإنها إمبراطورة الحقائب، أما الحقيقة فهى إنها كانت إمبراطورة الألوان المبهجة.
***
لم أتخيل أن يوما ما سيأتى عليّ لأكتب عن مصممة الأزياء الأمريكية كاثرين بروسناهان ــالمعروفة باسم كيت سبيدــ فلا أنا اهتممت بالتعرف عليها من قبل، ولا اعتنيت بالبحث عن كيف وصلت إلى ما وصلت إليه من شهرة، لكن شيئا ما فى تفاصيل وفاتها ظل يطاردنى طيلة أسابيع ثلاثة لأفعل، وأخيرا رضخت. فى أحد صباحات شهر يونيو الجارى كان كل شيء فى منزل كاثرين أو كيت يبدو عاديا عندما دخلت معاونتها لتمارس مهامها كالمعتاد فوجدت ربة المنزل فى حال غير الحال. لفّت كيت إيشاربا طويلا حول عنقها وربطته فى باب غرفتها وأخذت تبتعد عن الباب وتبتعد، والخناق يضيق حول عنقها ويضيق حتى تصبب عرقها ولهثت أنفاسها وحشرجت ثم غابت. قمة التناقض أن تتخذ كيت من أحد إيشارباتها ذات الألوان المبهجة أداة لتفارق بها الحياة، لكن يبدو أن هذه المبدعة أرادت أن تروج لبضاعتها حتى وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة، فلا شك أن هذا الإيشارب سيشتهر ومن يدرى فلعل أحد المهووسين بشراء مقتنيات الفنانين يدفع فيه مئات الآلاف من الدولارات ويقتنيه، فهل أحبت كيت فنها إلى هذه الدرجة حتى أنها فكرت فى وضع توقيعها على وسيلة خنقها؟، أم أن خلافاتها مع زوجها هى السبب فى تخلصها من حياتها كما ردد البعض؟ ولو صح ذلك فهل أرادت كيت أن تقول لزوجها صنعنا هذا الإيشارب معا لكنى آخذه معى بغير رجعة ؟ لا أحد يدرى، ذهبت كيت وذهب معها سرها.
***
وضعت كيت اللبنة الأولى لإمبراطوريتها ــإمبراطورية الألوان المبهجةــ فى عام ١٩٩٣ بالاشتراك مع الرجل الذى تزوجته لاحقا آندى سبيد، واتخذ هذا المشروع المشترك اسما له هو كيت سبيد. جزء من الاسم كان مشتقا من الاسم الأصلى لمصممة الأزياء:كاثرين، والجزء الآخر كان مشتقا من اسم زوجها: سبيد، كانت الشراكة إذن تامة ومن لحظة البداية. ومع ذلك فإن شهرة هذه الإمبراطورية كانت من نصيب المرأة بالأساس فباتت هى كيت سبيد وكيت سبيد صارت هى، ولم يعد أحد يذكر سبيد أو نصفها الآخر فى الحياة والعمل معا. هذا التوحد التام بين مصممة الأزياء وعلامتها التجارية كان يمثل بلا شك مصدر سعادة بالنسبة لها، لكن لعله تَحَول بمرور الوقت إلى لعنة تطاردها ولا تملك منها فكاكا. فى عام ١٩٩٩ قام الثنائى كيت وسبيد ببيع أكثر من نصف شركتهما لشركة كوتش، وأظن أن هذه كانت الخطوة الأولى نحو شعور المرأة بالاكتئاب. وفى عام ٢٠٠٧ قام الزوجان ببيع ما تبقى من نصيبهما فى شركة كيت سبيد، ومع أن السبب الذى أُعلِن لهذه التصفية كان سببا مقنعا فى حينه وهو رعاية ابنتهما الوحيدة التى كان يبلغ عمرها عامين، إلا أن هذه أظنها كانت خطوة أخرى على طريق اكتئاب كيت. نعم هى عادت لتنشط مجددا فى عام ٢٠١٦ وتؤسس مع زوجها شركة جديدة باسم فرانسيس ڤالانتاين، لكن شهرتها الأولى كانت الأهم، البدايات دائما لها مذاق خاص فهذا التحدى ونحن بعد فى سنواتنا الأولى يُحمِسنا.. يفجر طاقاتنا ويخرج أفضل ما فينا، حتى إذا رحلت كيت ذكرها الجميع باسم مشروعها الأول كيت سبيد وليس باسم مشروعها الثانى والأخير فرانسيس ڤالانتاين.
***
فى مقال مطول نشرته صحيفة The NewYorker عن كيت بعد وفاتها حكت كاتبته راشيل سايم حكاية شديدة الدلالة عن مبلغ الألم الذى ظل يلازم كيت بعد أن باعت شركتها، تقول الحكاية إن مصممة الأزياء عندما دخلت فى العام الماضى للتسوق من شركتها وسألها من يجلس على الخزينة سؤالا معتادا هو: هل يوجد اسمك على قائمة إرسالنا؟ أحست بغصة فى حلقها إذ كيف يُوَجَه لها هذا السؤال وهى مؤسسة الشركة وكيف بالرجل لا يعرفها وصورها مفترض أنها تملأ الصحف والمجلات. ابتلعت كيت المفاجأة وردت بالنفى، ثم استطردت قائلة: لا أنا لست على قائمة إرسال شركتكم لكننى ساهمت فى خلقها!
***
يدخل حياتنا بشر كثيرون يبهجوننا بأشكال مختلفة ويخرجون منها أحيانا بطرق مأساوية، وقد كانت كاثرين بروسناهان واحدة من هؤلاء فلقد أبهجتنا ببهرجة ألوانها وغادرتنا بأشد الوسائل قسوة وإيلاما.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع