بقلم: نيفين مسعد
لن يعرف هذا الطبيب أني سأكتب عنه لسببين، السبب الأول أنه بالتأكيد لم يعد يذكرني وقد انقطَعَت صلتي به من سنين طويلة، والسبب الثاني أن اللقاء الذي جدد علاقتنا قبل أيام كان عبارة عن خبر على الفيسبوك ينعيه لكل من يعرفه. سبحان من له الدوام، تحول الفيسبوك إلى سرادق عزاء كبير يُتلَى فيه الدعاء وتتنزل الرحمات على طوابير الراحلين، وأحيانا بشكل مبالغ فيه جدا. نظرتُ إلى صورة الطبيب الراحل وكأن شيئا فيه لم يتغير، أو لعلها صورة قديمة، ملامحه الرائقة ما زالت كما هي، عيناه الخضراوان وشعره المنحسر ونظارته المعدنية، حتى إطار نظارته ظل هو نفسه، وهكذا فحين حاولت أن أستدعي صورته قبل نحو خمسة عشر عاما وهو يهز رأسه بأسى وأمي مسجاة أمامه على الفراش، أجدها هي ذاتها الصورة المجللة بالسواد على الفيسبوك ومن فوقها آية "وبشّر الصابرين". حتى الأطباء يموتون، هذا واضح.
***
بداية معرفتي بهذا الطبيب لم تكن بداية مشجعة، كنت أبحث عن سائق لسيارتي ورشّح لي أحد أولاد الحلال سائقا وصفه بالممتاز وأضاف على سبيل الدعابة أنه "استعمال طبيب"، يريد أن يقول إن خبرته السابقة تلائمني. استمرت علاقة العمل مع السائق حوالي ثلاث سنوات ثم جاءني ذات يوم ليخبرني بكل أسف أنه مضطر لتركنا والعودة إلى أسرة الطبيب المشهور فلان التي كان يعمل معها قبلي، وتلك كانت ورطة. العام الدراسي في أوله والتوصيل للمدارس مهمة ثقيلة، وانسحاب السائق دون مقدمات لم يترك فرصة للبحث عن بدائل. تكونت لدّي مشاعر غير ودية تجاه الطبيب المشهور، فها هو ببساطة متناهية قد تسبب في إرباك حياة أسرة وادعة واستدعى سائقه القديم بمكالمة تليفونية، والأرجح أن الطبيب كانت قد تكّونت لديه نفس المشاعر تجاهي عندما تركه سائقه من قبل وعمل معي. على أية حال فإن شهورا قليلة مضت ووجد الفراغ من يملأه، أخذتني دوامة الحياة فنسيت الطبيب والسائق معا، إلى أن مرِضَت أمي الحبيبة.
***
عندما يمرض أحباؤنا ينتابنا ارتباك عظيم، في دفقة أولى من المشاعر نكذّب الواقع ونرفضه، وفي دفقة ثانية نتعلق بوهم أن أحباءنا مخلّدون، أما في الدفقة الثالثة فإننا نستوعب الموقف ونلهث وراء الطبيب الذي يجمع كل مشتقات أفعل التفضيل.. نفتش عن الطبيب الأشطر والأكبر والأشهر والأكثر تخصصا، وفي حالة أمي فما أن أدركتنا الدفقة الثالثة من المشاعر حتى قادتنا إلى الطبيب إياه فقد كان عليه إجماع. وهكذا تأبطتُ ذراع أمي ذات مساء وأخذنا طريقنا إلى عيادته. ديكور المكان جزء لا يتجزأ من شخصية صاحبه، وبالتالي ساعدتني اللوحات الزيتية بألوانها الهادئة، والزهور الصناعية الوقورة، والآية القرآنية الوحيدة المعلقة "وإذا مرضتُ فهو يشفينِ" على تكوين فكرة عامة عن الطبيب، بدا لي هادئا راقي الذوق يحدد لمرضاه من اللحظة الأولى حدود قدرته على المساعدة: الشفاء من عند الله وما هو إلا وسيلة.
***
بمرور الوقت اشتبكَت أمي في حديث مع امرأة تقارب عمرها، أما أنا فهاجمني فجأة خليط عجيب من الهواجس، هواجس الضحية والجانية معا على خلفية قصة السائق إياه، يوووووه لماذا تذكرتِ الآن هذه القصة التافهة؟ تذكرتُها لأننا في لحظات الأزمة نحتاج تصريف توترنا في مسارات قد تبدو تافهة، وكان مرض أمي أزمة. باغتتني نفسي بسؤال: هل سيتعرف عليّ الطبيب؟ أجبت: لا أظن، فحتى لو عرف الطبيب اسمي من سائقه فإنه لن يذكره، ومن ناحيتي لا معنى لأكُر له اسمي الثلاثي كرّا، ولا هو مطلوب أصلا. سؤال آخر: هل أثق في الطبيب وقد خطف سائقي دون استئذان؟ الرد: لا فارق بينه وبيني.. خطف سائقي كما خطفت سائقه .. لا لم أخطفه هو الذي جاءني مختارا .... ممممم .. مدام فلانة... علا صوت الممرضة مناديا على أمي فأخذني من نفسي ومضيت إلى غرفة الطبيب بصحبة هذه السبعينية الحبيبة المتشحة بالسواد والألم معا.
***
خلف المكتب كان يجلس رجل بمواصفات الصورة التي شاهدت نعي صاحبها على الفيسبوك، أراقبه بحذر ويتعامل معي دون حساسية، شعور صغير بالنصر لأنني أعرف عنه ولا يعرف عني. تعامل مع أمي بود شديييييد جدا، يحتاج أحبتنا في هذه السن المتقدمة إلى من يدلل ويحنو ويطّيب الخاطر فحساسيتهم تصير مفرطة. أصغَي وأصغَي وأصغَي وأمي لا تتوقف عن الكلام، تشرح كل شيء بدقة متناهية، هي في العادة كانت قادرة على تشخيص أمراضنا: هذه حصبة وتلك غدة نكفية أو هي بدايات جديري، أما في مرضها فإنها احتاجت مساعدة صديق / طبيب. أعطاها الرجل من وقته واهتم بها .. إنها تحتاج إلى ألف اهتمام، هممت بمساعدتها حين قامت للكشف فناب هو عني، حشّمني الرجل كما يقول إخواننا التوانسة أي أخجلني ..ارتاحت له أمي وارتحتُ له. صار مشوار الكشف عند الطبيب فسحة أمي الدورية، تحفظ مواعيده وإن نست ما قبل الميعاد وما بعده، وتهاديه ببعض الأشياء الصغيرة تعبيرا عن معزّته، ونشأت بين الطبيب وكل أسرتنا أمي وأنا وأخويّ علاقة إنسانية جميلة. هو حزن صادق ذلك الذي أخذ يظهر في عينيه مع تدهور حالة أمي، إنه يكاد يفقد مريضة / صديقة وعائلة اطمأنت إليه ووثقت فيه. وسط الزحام، خُيّل لي ذات يوم أن الطبيب قال لي وهو يودّعني وأمي: فلان يهديكِ السلام! وفلان هذا كان السائق إياه، تظاهرت بأنني لم أسمع وبالتالي لم أرد، مع أني سمعت. منذ متي وهو يعرفني؟ أترى السائق رآني وأنا أتردد عليه؟ "لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم"، لم أسأل.
***
نظرتُ إلى صورة الطبيب المجللة بالسواد على الفيسبوك فانقبض قلبي، نقرتُ الكلمتين المعتادتين تحت نعيه : البقاء لله، واحتفظتُ بباقي كلمات العزاء لنفسي. بدون سبب أخذتُ نسخة من النعي وأضفتها لذاكرة الصور في هاتفي، ماذا ؟ أولا يوجد سبب فعلا ؟ بلى يوجد سبب .. فالذكريات تظل هي الذكريات مهما آلمت.