توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

يوم القبض على كيا

  مصر اليوم -

يوم القبض على كيا

بقلم :نيفين مسعد

قبل سبعة شهور من انتشار جملة "لا أستطيع التنفس" التي قالها المواطن الأمريكي الملون چورچ فلويد بينما راح الشرطي الأبيض يضغط على عنقه بقسوة لا مزيد عليها، كانت هناك جملة أخرى لا تقل عنها إيلاماً قالتها الطفلة الملونة كيا رول هذا نصها "لا أريد قيداً حول يدي.. لا تضع القيد.. أنقذوني.. أنقذوني". جملة فلويد سمع بها العالم كله وانطلقت من مدينة مينيبوليس بولاية مينيسوتا لتصير أيقونة المظاهرات الحاشدة ضد العنصرية التي اجتاحت أوروبا فضلا عن الولايات المتحدة طبعاً، تطور الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك وتم فتح صفحة التاريخ الاستعماري لشخصيات كبيرة من وزن تشرشل أدّت خدمات جليلة لمجتمعاتها لكن لاحقتها شبهة العنصرية، وبدأت معركة إسقاط الرموز والتماثيل ومن ورائها جدل كبير حول سؤال: هل يمكن محاكمة التاريخ؟ أما جملة كيا فلم يكد يسمع بها أحد، أثيرت في عدة صحف في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا وفي بعض الصحف القومية مثل النيويورك تايمز، لكنها لم تحظ بنفس اهتمام الرأي العام العالمي الذي حظيت به جملة چورچ ولا حتى بنصفه أو ربعه، وأشك أن كثيراً من قرّاء هذا المقال قد سمعوا بالموضوع، وكنت مثلهم قبل عدة أيام حتي ساقتني إليه صدفة بحتة. غريب هذا الإعلام الذي يكشف ويواري وفق الهوى.
***
كيا رول هي طفلة شقية عمرها ست سنوات، طبيعي أن كل الأطفال أشقياء لكن فيما يبدو أن كيا كانت أكثر شقاوة من المعتاد. بعد الواقعة قالت الجدة إن حفيدتها كيا تعاني من اضطرابات في النوم وإنهم يحاولون علاج ذلك. الأرق سبب كاف للعصبية، وقد يكون مؤشراً على اضطرابات من نوع آخر.. في الشخصية مثلاً. أما الواقعة التي دارت أحداثها شهر سبتمبر الماضي في مدرسة Lucious and Emma Nixon الابتدائية بمدينة أورلاندو فتتلخص في أن كيا الشقية لم تمتثل في هذا اليوم للنظام، أحدثت ضجة وأشاعت الفوضى وزادت فركلت أحد مدرسيها، وعلى إثر ذلك تم استدعاء رجل الأمن الخاص بالمدرسة فأتي مسرعاً ووضع كلابشاً في يدي الصغيرة ليكبلها، اقتادها عبر ممرات المدرسة إلى سيارة الشرطة، وفي الأثناء فإن كيا المسكينة التي لم تفهم بالضبط ماذا يدور حولها.. كانت تبكي وتصرخ بشكل هستيري: لا أريد القيد.. لا أريد الذهاب في سيارة الشرطة!. ولكي يكتمل المشهد التراچيدي أظهرت كاميرات المدرسة مدى الصعوبة التي واجهها رجل الأمن عندما شرع في تكبيل الصغيرة لأن معصميها ببساطة كانا أصغر من الكلابش... ممممم.. لم يتحسب إذن صانعو الكلابشات ليوم يُكّبل فيه أطفال في سن السادسة، معقول؟ بالنسبة لي فإن هذه الواقعة لا تقل قسوة عن واقعة قتل چورچ فلويد، هو فقد حياته وهي فقدت سلامها النفسي إلى الأبد، وبعد هذا اليوم لن تعود الصغيرة كما كانت، ستكون أكثر عدوانية ربما.. منكسرة جداً ربما.. شديدة الخوف ربما.. وربما مزيج من كل هذه المشاعر مجتمعة، وفي كل الأحوال لن تعود كيا هي كيا.
***
هل كان تيرنر- الشرطي الهمام الذي قبض على الطفلة الصغيرة -حديث عهد بالعمل في جهاز الشرطة؟ لا على العكس من ذلك تماماً، فقبل أن يفعل تيرنر ما فعل كان قد قضى في عمله ما يقرب من ربع قرن أو ثلاثة وعشرين عاما بالتمام والكمال، لكن اللون أعماه، لم ير في هذه المخلوقة الصغيرة التي تحاول الإفلات منه وتجري وتختبئ وتصرخ وتستغيث إلا مجرد كرة سوداء تتدحرج على الأرض، ومثلها مثل أي كرة فإن مكانها الطبيعي بين الأقدام، إن كيا خُلِقَت لتُركَل فما بالها تركل مدرسها وتتلاعب بالتصنيف الاجتماعي وتتسبب في خلط الألوان؟ ولذلك بدا تيرنر متسقاً تماماً مع نفسه عندما رد على جدة كيا قائلا بأنه هو الآخر يعاني اضطرابا في النوم "لكنه لا يتصرف هكذا". هذه المقارنة التي قام بها الشرطي شديدة الأهمية لأنها في الواقع ليست بين سلوك رجل ناضج وسلوك طفلة صغيرة، لكنها بين سلوك لونين أحدهما أبيض متحضر والآخر أسود همجي. ومع ذلك فإن تيرنر البطل الأكثر شراً في الحكاية والذي سبق له القبض على طفل في الثامنة ليس وحده، فهناك المدرَسة التي فكرت في اللامعقول باستدعائها الأمن لطفلة السادسة دون أن يلوح في أفقها رجل واحد رشيد، والموظفون الذين تفرجوا على كيا وهي تقاوم وتفلفص وتعافر ثم تخور.. كلهم مذنبون.. كلهم مذنبون.
***
عندما شاع النبأ وصف مأمور قسم أورلاندو الواقعة بقوله "باعتباري جداً أتفهم كيف كانت هذه الواقعة صادمة للأطفال ولكل من له علاقة بها". بدوري تذكرتُ حفيداتي وبينهن واحدة في مثل عمر كيا تقريباً.. تخيلتها بسوار الخرز الملفوف حول معصمها صنعته بنفسها في ساعة روقان ورحتُ أقارنُ السوار بالكلابش فطاش صوابي، لكن هل يجب أن يكون لدينا أحفاد حتى نشعر بهول الموقف؟ أوليست الطفولة تُعذر بحد ذاتها دون وسيط؟ عموماً تبَلَغنا أن تيرنر جرى فصله من الخدمة في جهاز الشرطة، أما هذه المؤسسة "التربوية" الابتدائية التي شهدت القبض على كيا فلم نعرف ما حلّ بها.
***
بين حين وآخر تصادفنا واقعة كمثل واقعة الطفلة كيا رول لتنبهنا إلى أن كل الكلام عن خرافة التفوق العنصري هو نفسه خرافة كبيرة لا ينجو منها إلا قليل من البشر، وأن بوتقة الصهر الأمريكية الشهيرة تصهر فقط أصحاب البشرة البيضاء أما الألوان الأخرى فلا تذاب، وأننا في هذا العالم القبيح نحتاج بشدة إلى مارتن لوثر جديد فواحد منه فقط لم يعد يكفي.. لم يعد يكفي أبداً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوم القبض على كيا يوم القبض على كيا



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon