بقلم :نيفين مسعد
قبل سبعة شهور من انتشار جملة "لا أستطيع التنفس" التي قالها المواطن الأمريكي الملون چورچ فلويد بينما راح الشرطي الأبيض يضغط على عنقه بقسوة لا مزيد عليها، كانت هناك جملة أخرى لا تقل عنها إيلاماً قالتها الطفلة الملونة كيا رول هذا نصها "لا أريد قيداً حول يدي.. لا تضع القيد.. أنقذوني.. أنقذوني". جملة فلويد سمع بها العالم كله وانطلقت من مدينة مينيبوليس بولاية مينيسوتا لتصير أيقونة المظاهرات الحاشدة ضد العنصرية التي اجتاحت أوروبا فضلا عن الولايات المتحدة طبعاً، تطور الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك وتم فتح صفحة التاريخ الاستعماري لشخصيات كبيرة من وزن تشرشل أدّت خدمات جليلة لمجتمعاتها لكن لاحقتها شبهة العنصرية، وبدأت معركة إسقاط الرموز والتماثيل ومن ورائها جدل كبير حول سؤال: هل يمكن محاكمة التاريخ؟ أما جملة كيا فلم يكد يسمع بها أحد، أثيرت في عدة صحف في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا وفي بعض الصحف القومية مثل النيويورك تايمز، لكنها لم تحظ بنفس اهتمام الرأي العام العالمي الذي حظيت به جملة چورچ ولا حتى بنصفه أو ربعه، وأشك أن كثيراً من قرّاء هذا المقال قد سمعوا بالموضوع، وكنت مثلهم قبل عدة أيام حتي ساقتني إليه صدفة بحتة. غريب هذا الإعلام الذي يكشف ويواري وفق الهوى.
***
كيا رول هي طفلة شقية عمرها ست سنوات، طبيعي أن كل الأطفال أشقياء لكن فيما يبدو أن كيا كانت أكثر شقاوة من المعتاد. بعد الواقعة قالت الجدة إن حفيدتها كيا تعاني من اضطرابات في النوم وإنهم يحاولون علاج ذلك. الأرق سبب كاف للعصبية، وقد يكون مؤشراً على اضطرابات من نوع آخر.. في الشخصية مثلاً. أما الواقعة التي دارت أحداثها شهر سبتمبر الماضي في مدرسة Lucious and Emma Nixon الابتدائية بمدينة أورلاندو فتتلخص في أن كيا الشقية لم تمتثل في هذا اليوم للنظام، أحدثت ضجة وأشاعت الفوضى وزادت فركلت أحد مدرسيها، وعلى إثر ذلك تم استدعاء رجل الأمن الخاص بالمدرسة فأتي مسرعاً ووضع كلابشاً في يدي الصغيرة ليكبلها، اقتادها عبر ممرات المدرسة إلى سيارة الشرطة، وفي الأثناء فإن كيا المسكينة التي لم تفهم بالضبط ماذا يدور حولها.. كانت تبكي وتصرخ بشكل هستيري: لا أريد القيد.. لا أريد الذهاب في سيارة الشرطة!. ولكي يكتمل المشهد التراچيدي أظهرت كاميرات المدرسة مدى الصعوبة التي واجهها رجل الأمن عندما شرع في تكبيل الصغيرة لأن معصميها ببساطة كانا أصغر من الكلابش... ممممم.. لم يتحسب إذن صانعو الكلابشات ليوم يُكّبل فيه أطفال في سن السادسة، معقول؟ بالنسبة لي فإن هذه الواقعة لا تقل قسوة عن واقعة قتل چورچ فلويد، هو فقد حياته وهي فقدت سلامها النفسي إلى الأبد، وبعد هذا اليوم لن تعود الصغيرة كما كانت، ستكون أكثر عدوانية ربما.. منكسرة جداً ربما.. شديدة الخوف ربما.. وربما مزيج من كل هذه المشاعر مجتمعة، وفي كل الأحوال لن تعود كيا هي كيا.
***
هل كان تيرنر- الشرطي الهمام الذي قبض على الطفلة الصغيرة -حديث عهد بالعمل في جهاز الشرطة؟ لا على العكس من ذلك تماماً، فقبل أن يفعل تيرنر ما فعل كان قد قضى في عمله ما يقرب من ربع قرن أو ثلاثة وعشرين عاما بالتمام والكمال، لكن اللون أعماه، لم ير في هذه المخلوقة الصغيرة التي تحاول الإفلات منه وتجري وتختبئ وتصرخ وتستغيث إلا مجرد كرة سوداء تتدحرج على الأرض، ومثلها مثل أي كرة فإن مكانها الطبيعي بين الأقدام، إن كيا خُلِقَت لتُركَل فما بالها تركل مدرسها وتتلاعب بالتصنيف الاجتماعي وتتسبب في خلط الألوان؟ ولذلك بدا تيرنر متسقاً تماماً مع نفسه عندما رد على جدة كيا قائلا بأنه هو الآخر يعاني اضطرابا في النوم "لكنه لا يتصرف هكذا". هذه المقارنة التي قام بها الشرطي شديدة الأهمية لأنها في الواقع ليست بين سلوك رجل ناضج وسلوك طفلة صغيرة، لكنها بين سلوك لونين أحدهما أبيض متحضر والآخر أسود همجي. ومع ذلك فإن تيرنر البطل الأكثر شراً في الحكاية والذي سبق له القبض على طفل في الثامنة ليس وحده، فهناك المدرَسة التي فكرت في اللامعقول باستدعائها الأمن لطفلة السادسة دون أن يلوح في أفقها رجل واحد رشيد، والموظفون الذين تفرجوا على كيا وهي تقاوم وتفلفص وتعافر ثم تخور.. كلهم مذنبون.. كلهم مذنبون.
***
عندما شاع النبأ وصف مأمور قسم أورلاندو الواقعة بقوله "باعتباري جداً أتفهم كيف كانت هذه الواقعة صادمة للأطفال ولكل من له علاقة بها". بدوري تذكرتُ حفيداتي وبينهن واحدة في مثل عمر كيا تقريباً.. تخيلتها بسوار الخرز الملفوف حول معصمها صنعته بنفسها في ساعة روقان ورحتُ أقارنُ السوار بالكلابش فطاش صوابي، لكن هل يجب أن يكون لدينا أحفاد حتى نشعر بهول الموقف؟ أوليست الطفولة تُعذر بحد ذاتها دون وسيط؟ عموماً تبَلَغنا أن تيرنر جرى فصله من الخدمة في جهاز الشرطة، أما هذه المؤسسة "التربوية" الابتدائية التي شهدت القبض على كيا فلم نعرف ما حلّ بها.
***
بين حين وآخر تصادفنا واقعة كمثل واقعة الطفلة كيا رول لتنبهنا إلى أن كل الكلام عن خرافة التفوق العنصري هو نفسه خرافة كبيرة لا ينجو منها إلا قليل من البشر، وأن بوتقة الصهر الأمريكية الشهيرة تصهر فقط أصحاب البشرة البيضاء أما الألوان الأخرى فلا تذاب، وأننا في هذا العالم القبيح نحتاج بشدة إلى مارتن لوثر جديد فواحد منه فقط لم يعد يكفي.. لم يعد يكفي أبداً.