بقلم :نيفين مسعد
في الإسكندرية وعلى مقربة من ميدان المنشية الشهير الذي جرت فيه محاولة الإخوان اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في أكتوبر ١٩٥٤، كان يجري الاحتفال في داخل مكتبة الإسكندرية بمرور ٥٠ عاماً على رحيل عبدالناصر، وكأن المسافة ما بين الميدان والمكتبة هي المسافة الفاصلة بين عُمر جديد كُتب لعبد الناصر مع نجاته من محاولة الاغتيال الفاشلة ليعيش ستة عشر عاماً بعدها، وعُمر يتجدد مع كل ذكرى كبيرة تنبع منه وترتبط باسمه، ومن بينها ذكرى الرحيل. الاحتفال الذي دعا إليه مدير المكتبة الدكتور مصطفي الفقي الحاضر دائماً في كل مناسبات الوطن، ونظمته الدكتورة المتميزة مي مجيب مديرة مركز الدراسات الاستراتيجية بالمكتبة جاء في شكلين، الأول عبارة عن ندوة بحثية غنية أدارتها باقتدار السفيرة فاطمة الزهراء عتمان مستشارة مدير المكتبة، أما الشكل الثاني فكان عبارة عن فيلمين تسجيليين تناولا حياة عبد الناصر وجنازته، وكلاهما من إعداد استوديو المكتبة.
***
بدأ الفيلم الخاص بحياة عبد الناصر- وسوف يركز عليه المقال- بدايةً ذكيةً تداخلت فيها صرخة ناصر القوية: أيها الرجال فليبق كلٌ في مكانه، مع صوته الجهوري المجلجل: قرار رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، يريد الفيلم بذلك أن يلفتنا إلى أن القاسم المشترك بين الواقعتين هو مسرح الأحداث في ميدان المنشية، فهذا الميدان الذي أريد له أن يكون المحطة الأخيرة في حياة عبد الناصر إذا به يصبح بعد قرار تأميم القناة نقطة تحول فاصلة في حياة الزعيم وفي كل تاريخ المنطقة. وبعد هذا الاستهلال الخاص أخذ صوت دينا أبو علا- مسؤولة استوديو المكتبة- يصحبنا في الطواف بالمحطات الرئيسية في حياة عبد الناصر، حياة غنية جداً لكنها قصيرة حتى لتحسبَها لفرط تلاحق أحداثها أشبه ما تكون باللهاث ما بين حركة البناء وإنجاز العدالة الاجتماعية في الداخل وإدارة المعارك مع القوى الكبرى وإثبات الوجود في الخارج. كل محطة من هذه المحطات المتلاحقة جديرة بفيلم تسجيلي خاص بها لكن الفيلم حلّق فوقها كطائر وتنقّل بينها فيما لا يتجاوز عشرين دقيقة، وتلك كانت مهمة صعبة. في الأثناء وبدون مناسبة استرجعت جملة كثيراً ما تكررها هدى جمال عبد الناصر أمام الجميع: تصدّق (أو تصدّقي) إني عشت أكتر من والدي!
***
تبدو حياة عبد الناصر وكأنها سلسلة لا تتوقف من الاستجابات للتحديات الوطنية والعربية، إلغاء دستور ١٩٢٣ يقابله خروجه لأول مرة للتظاهر مع أبناء الإسكندرية، توقيع معاهدة ١٩٣٦ يتبعه التحاقه بالكلية الحربية، نشوب حرب فلسطين وتقدمه ليكون في طليعة المدافعين عنها، تزايُد وطأة الاحتلال وفساد الملكية فيقوم مع مجموعة الضباط الأحرار بثورة ١٩٥٢. وعندما نصل إلى هذه النقطة.. أي نقطة نجاح الثورة إذا بصوت العندليب يصدح فرِحاً ويملأ أرجاء القاعة الفسيحة بمقطع من أغنية مطالب شعب "من يوم ما انتصرت ثورتنا مع جيلنا وحارس عروبتنا.. ويوماتي في نصر جديد طالع مع كل صباح على أمتنا"، وإذا بدفقة الأحاسيس الفائرة التي واكبت هذه المرحلة تتجدد وكأن الذي حدث حدث اليوم بل كأنه حدث الآن. حليم هو مطرب الثورة بامتياز، أعطته الثورة فرصة عمره وأعطاها روحها وتوحد معها في النصر والهزيمة معاً. يحكي لنا الناقد الكبير طارق الشناوي عن كواليس أغنية حكاية شعب بمناسبة معركة بناء السد العالي فيقول عندما كتب الشاعر الرقيق أحمد شفيق كامل مقطع "ضربة كانت من معلم خلى الاستعمار يبلّم"- وليس يسلّم كما خدعتنا آذاننا زمناً طويلاً- كان هناك توجس مِن وصف عبد الناصر بالمعلم لأنه بدا من قبيل التباسط مع زعيم ملأ الدنيا وشغل الناس. لكن عندما غنّى حليم الأغنية في حفل عام ووصل إلى المقطع إياه ابتسم كمال الدين حسين ومن بعده الرئيس ثم المشير فهدأت مشاعر القلق وحصلت الأغنية على جواز مرور. كان عبد الناصر أبسط مما تصور بعض من أحاطوا به وإن كانوا مقربين، وكان موقفه من الفن بشكل عام موقفاً تقدمياً ومتفهماً لا أدل عليه من أفلام مثل شيء من الخوف وميرامار.
***
وبالإضافة لأغاني العندليب، استعان الفيلم في خدمة خطه الدرامي بمقطع من خطاب لطه حسين بمناسبة عيد العلم، والخطاب في حد ذاته عبارة عن تحفة لغوية بليغة ودرس رفيع في فن الإلقاء لعميد الأدب العربي تعبيراً عن تقديره لدور الزعيم في الاحتفاء بالعلم والعلماء، إلا أنني على المستوى الشخصي توقعتُ أن يكون هناك اهتمام أكبر في الفيلم بأحد أهم منجزات الثورة هو مجانية التعليم خاصةً وقد تمت الاستعانة بطه حسين وجرى استحضار مواقفه، وهناك حديث تلڤزيوني شهير لطه حسين نهاية الستينيات قارن فيه بين النظام الملكي الذي رماه بالترويج للشيوعية حين دعا لأن يكون التعليم بالنسبة للمصريين كالماء والهواء، ونظام الثورة الذي حقق له حلمه الكبير فجعل التعليم في متناول الجميع ووسيلة الفقراء للحراك الاجتماعي. أما اللقطة المأخوذة من فيلم العصفور ليوسف شاهين والتي تم توظيفها للتعبير عن الموقف الشعبي الرافض لتنحي عبد الناصر فكانت رائعة. في هذه اللقطة بدت محسنة توفيق ذاهلة.. زائغة النظرات وهي تجري في الطريق بغير هدف وتصيح "لا أبداً حانحارب.. حانحارب"، كل من عاصر هذه المرحلة عايش هذا الإحساس بالضياع، كانت الصدمة مروعة لاشك في ذلك لكن التسليم بذهاب عبد الناصر كان يعني القبول بالهزيمة وهذا مستحيل، أوليس عبد الناصر هو القائل قبيل العدوان الثلاثي على مصر "إنه لخيرٌ لنا أن نموت جميعاً دفاعاً عن وطننا عن أن نقبل طوعاً احتلال بريطانيا وفرنسا لجزء من أراضينا؟"، بلى، فهذا إذن مثل ذاك. تصرَف عبد الناصر بمسؤولية فأعاد بناء الجيش وخاض حرب الاستنزاف ومهّد الطريق لنصر أكتوبر ومات واقفاً كما تموت الأشجار.
***
خمسون عاماً على رحيل عبد الناصر وُلِدت فيها أجيال واختفت أجيال والذكرى باقية رغم الحرب الضروس. خارج قاعة المكتبة استوقف ضيف سوري- في العقد السادس من عمره- جمال خالد جمال عبد الناصر، صافحه الرجل بحرارة وشدّ على يده فلم يُفاجأ الحفيد لأنه اعتاد أن يُعَامَل على أنه "من ريحة الحبايب" كما قال. وقبل يوم واحد فقط على احتفالية مكتبة الإسكندرية انفعل ضيف سوري آخر في الندوة التي نظمها المجلس الأعلى للثقافة بنفس المناسبة لأنه صاحب حق أصيل في الجلوس على المنصة والحديث عن الزعيم حديث العارفين. هذه التصرفات التلقائية ومثلها كثير دليل على أن الحضور العربي لعبد الناصر أكبر بما لا يقاس من حضوره المصري، والأهم هو أنها دليل على أن المشروع القومي الذي حمله عبد الناصر علي امتداد حياته القصيرة هو مشروع له أصل وجذوره ضاربة في الأرض- وإن تغيرت الظروف.