بقلم: نيفين مسعد
كأن دُشًّا باردًا نزل على رأسها وملأ فمها ماءً فسكتت، كانت تقترح عليه أن تستأجر مَرسَمًا صغيرًا ترسم فيه لوحاتها الزيتية فكَبسها قائلًا إنه لا حاجة بها لمكان مستقل لأن الغرفة الخشبية في الحديقة تفي بالغرض وزيادة. كانت تتوقع أن يطول النقاش قليلًا لتشرح له أن أفكارها ربما تحتاج إلى خلوة لتلتقي مع أشخاصها وعصافيرها وشمسها، أما هنا فلا فرصة للخلوة حيث الكل يطرق باب الكل والكل يقتحم خصوصية الكل، وها قد صار لها شهر كامل ولم تظلل ركنًا ولا مدّت خطًا ولا لمعت فكرة في رأسها. هي تعلم تمامًا أن الأمر لا علاقة له بالتدبير وأن زوجها على استعداد، إن هو قرر، أن يأخذها في رحلة حتى لجزر المالديف أو أن يهديها خاتمًا ثمينًا من عند خراساني، وليس لمجرد تجهيز مَرسَم متواضع.. متواضع؟ هي حتى لم تأخذ وقتًا لتشرح له مواصفات المرسم وفِي أي حي يكون، فجملة "إن هو قرر" جملة مهمة جدًا بل هي مفتاح الموقف بأكمله. وضعت فنجان قهوتها على المائدة، فلم ينتبه. غارق هو في عالَم الشاشات يتنقل فيما بينها طوال الوقت، فمن شاشة الموبايل لشاشة الكومبيوتر لشاشة التلڤزيون لشاشة البلاي ستيشن.
•••
انسحبَت بهواجسها إلى حيث اقترح عليها أن تذهب: البيت الخشبي. تغيّرت كثيرًا يا عادل، زمان لم تكن ترفض لي طلبًا، كان خصامي يزعجك وعتابي يؤرقك ودموعي لا تُحتَمل، فماذا جرى لك؟ بدا لها كما لو أن دخان سيجارتها راح يرسم في الهواء علامات استفهام بلا عدد. عندما دفع بأول سي دي إلى كاسيت سيارته في خلوتهما الأولى انبعث صوت سيلين ديون عميقًا كأن أحبالها الصوتية متصلة بقاع البحر فقالت: أحبها لكن أفضل عليها ويتني هيوستن. علّق: الآن ليس لدّي سيديه لهيوستن لكن في المرة القادمة أعدك بأن نسمعها معًا، وحصل. راحت هيوستن تغني أغنيتها الشهيرة I have nothing، فإذا بكيانها يُرّج رجًّا.. نقرَت بأصابعها كلمة شكرًا على يده الممسكة بالمقود. مضى وقت لا تعلمه قبل أن يفتح معها عادل موضوع ديون وهيوستن من جديد واستمعت إليه وهو يعدّد لها مزايا صوت مطربته المفضّلة ويدعوها لأن تعطيها فرصة، ضحِكت، مَن هي بالضبط حتى تعطي فرصة لمطربة عالمية لها ملايين المعجبين حول العالم؟ لكنها استجابت، وأعادت اختبار ذوقها. سمعتها مرة واثنتين وثلاث مرات، مازالت هيوستن تتفوق، ثم ها هي ديون تتقدم، ثم ها هي ديون تكسب السباق، ومن بعد ما من مرة جمعتها السيارة بعادل إلا وطلبت منه أن تسمع سيلين ديون.
•••
فتحَت شباك المنزل الخشبي لتدخل إليها رائحة العشب الأخضر التي تشبه رائحة البطيخ، وهي تحب كليهما العشب والبطيخ، كانت تريد من هذا الهواء أن يكون بمثابة مروحة تحرك الهواء من حول أفكارها التي تلخبطت إذ فجأة عندما تذكَرت قصة الكاسيت والسيارة والأغاني فأضاءت لمبة داخل عقلها بل عدة لمبات. في الحقيقة لم يكن هذا الموقف الذي تذكّرته هو الوحيد من نوعه فهناك العشرات من المواقف التي وقفت في الطابور تنتظر الإذن لها بأن تجتاز الحد الفاصل بين اللاوعي والوعي. تذَكرَت حين رُزقت ابنها البكر وكانت تخطط له منذ كان مجرد حلم أن يتلقى تعليمًا فرنسيًا لأن هذه الثقافة هي التي تربّت عليها، ولأن جيل هذه الأيام يلتقطون الإنجليزية بسهولة، فكل شيء ينطق ويتعامل بها. لم يمانع عادل فاكتساب لغتين أفضل من واحدة، شاركها في اختيار المدرسة وزيارتها ومناقشة كل تفاصيلها قبل أن يبلغ ابنهما سن الدراسة. ثم في مناقشة عابرة طرح عليها فكرة الدراسة بالإنجليزية لأن الفرنسية تنحسر في العالم كله، فلماذا السباحة عكس التيار؟ ثم أن الفرنسية في كل الأحوال ستكون لغة الابن الثانية وهي على أي حال تستطيع أن تحادثه بها في المنزل، وبالتالي فالإنجليزية تستحق منها أن تعطيها فرصة. وعدته بالتفكير، سألت دائرة معارفها وأصدقائها المقرّبين، جوجلت وبحثت وقامت بكل الاتصالات اللازمة، في داخلها نقاش لا يتوقف أبدًا بين منطقين لكل منهما وجاهته والاختيار بينهما مستحيل، لكن ألم يكن الاختيار بين المغنيتين من باب أولى مستحيلًا لأنه مسألة ذوق والأذواق تختلف بالضرورة؟ بلى كان كذلك، ورغم هذا فإنها غيّرت رأيها واقتنعت بإلحاق ابنهما بالمدرسة البريطانية. لم يعد هواء النافذة يكفيها، تحتاج أن تتعلق بطاحونة هواء لتدور معها كريشة تلقى بها في أرض الله الواسعة.
•••
ظهر أمامها خيط متصل يربط بين كل مواقف عادل بحيث يبدو سؤالها عما إذا كان قد تغيّر أم لا سؤالًا أجوف ليس له معنى، ففي واقع الأمر لم يتغيّر عادل، إنه هو نفس الشخص العنيد، المعتّد برأيه، الرافض للاختلاف، وكل ما تغير فيه بمرور الوقت هو أسلوبه. زمان أيام الخطوبة الوردية كان يسحب حبيبته بهدوء إلى المنطقة التي يريدها، يقنعها أنها هي التي اختارت وهي التي فضّلت وهي التي قررت، وكان هذا وهمًا كبيرًا فلم تكن تختار ولا يحزنون بل هو الذي كان يختار. إنه تاجر شاطر في سوق العقارات كما في حياته الخاصة يعرف كيف يبيع الفكرة ويرضي الزبون. وعندما دخلَت قفص الزوجية وتحوّل الحب إلى عادة ضَمَنَ عادل زبونه فلم يعد يحتاج أن يلعب معه لعبة الثلاث ورقات حتى يقنعه برأيه، وهكذا كان من الطبيعي عندما طلبَت منه مَرسَمًا مستقلًا أن يرفض خبط لزق كما يقولون، دون لف أو دوران كأن يوافقها في البداية ثم يروح يقنعها بمزايا البيت الخشبي.
•••
ومع أن هذا التفسير كان مقنِعًا من وجهة نظرها إلا أنه بدا لها ليس كافيًا. يقولون إن الصفات الأخلاقية تتكثّف وتتركّز بمرور الوقت، البخيل يزيد بخله والانطوائي تزيد انطوائيته و..المتسلّط يزيد تسلّطه، وما بين ارتباطها بعادل واليوم مضى ثلاثة عشر عامًا وهذا وقت كاف جدًا لإحداث التراكم. القصة كلها من أولها لآخرها غير مريحة لكنها ارتاحت لهذا التفسير، لأنها وهي الشخصية المسالمة أو لنقل المستسلمة بمرور الوقت صارت أكثر خضوعًا واستسلامًا. نعم هي نقيض عادل وعكسه وضده وسالبه لكنها مثله مرّت بنفس العملية التراكمية عبر الزمن، هذه العملية التي أوصلتها إلى أن تقبل بمنتهى السهولة التخلي عن فكرة المَرسَم بمجرد أول "لا" ألقاها في وجهها. أما من فرصة لوقف عجلة الزمن؟ عجلة الزمن لا تتوقف، إنها مثل طاحونة الهواء، وكل الاختلاف أن العجلة تديرها السنون والطاحونة تديرها الرياح. لا توقّف للزمن إذن وهذا متّفق عليه، لكن بوسعنا نحن أن نتوقف ونترك العجلة والطاحونة تدوران لحالهما ونرتّب أمورنا بشكلٍ مختلف. هذا كلام كبير بل كبير جدًا هي لا تملك قوة قوله فضلًا عن تنفيذه، ومع ذلك فإن التجربة مغرية، فلتجرّب تجميد منسوب ضعفها عند الحد الذي وصل إليه، ولتحاول إعادة رسم خريطتها/ذاتها في مَرسَم جديد خارج حدود حديقته.