بقلم :نيفين مسعد
قبل أيام دار حوار على الواتساب بيني وبين مجموعة من الصديقات العزيزات أظن له رجع وصدى في دوائر ومجموعات كثيرة من المعارف والأصدقاء خصوصا في الفئة العمرية التي تنتمي إليها مجموعتنا. كنتُ قد تلقيت حِكمة من تلك الحِكَم التي تصلنا من مصادر مختلفة صباحاً تلو صباح لنقوم بتمريرها بدورنا إلى دوائر أوسع وأوسع عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، والحكمة ترجمتها من اللغة الإنجليزية هي: "الحياة هي سلام العقل، وسلام العقل هو ألا تحمل هماً". صدفة بحتة هي التي جعلتني أرسل الحِكمة إلى هذه المجموعة من الصديقات وكلهن نساء مرموقات في المجال العام وفي السلك الجامعي. أرسلتها لأني في الحقيقة لم أجد في متناول يدي باقة ورد أو فنجان قهوة أو نكتة لطيفة، ولو وجدت شيئا من هذا القبيل فعلى الأرجح كنت سأفضّل إرساله إلى الصديقات العزيزات، بصراحة لأن هذه الأشياء دمها أخف، ولأن التركيز الذهني يكون نص نص في بداية اليوم، ولأني لا أقتنع داخلياً بحكمة أن شراء الرأس يحقق السلام، وأخيراً لأن كل المطلوب هو جملة صباح الخير بدون مواعظ ولا إضافات، لكن هذا ما حدث على أي حال .
***
عقّبت صديقة على الحكمة التي نصحتنا بألا نحمل هماً قائلة: صحيح، لكن هناك أشياء جيدة تستحق الاهتمام بها، فرددتُ بما معناه: ليس الجيد وحده هو الذي نهتم به فأحياناً نهتم بأشياء غير جيدة، وأخذ النقاش يروح ويجئ في اتجاهات كثيرة، ثم انتقل النقاش من المجموعة إلى داخل نفسي على مدار اليوم. جوهر النقاش هو أن علينا أن نكون انتقائيين فيما نهتم به فنترفع عن الصغائر ونتغاضى عما يستفز، وفِي المقابل نكون إيجابيين فنتفاعل مع كل ما يضيف قيمة ويحقق إنجازاً ويبني، وهذا أمر في رأيي يسهل النصح به لكن يصعب تنفيذه. إننا مهما حاولنا أن ننعزل عن المنغصات فسنجد في لحظة معينة أننا لكي نضيف قيمة معينة علينا أن نشتبك مع بعض هذه المنغصات رغماً عنّا، وأننا قد لا نملك بالضرورة رفاهية الترفع عن الصغائر. هنا لا أعني الأشياء الصغيرة التي تكتسب حجماً أكبر من حجمها مع تقدم العمر عندما ينفد الصبر ويضيق الصدر، كأن نأخذ مثلاً على خاطرنا من إهمال غير متعمد من ابن أو قريب، لكني أعني الأشياء التي تبدو صغيرة في ظاهرها لكنها ليست كذلك، الأشياء التي يصعب الإفلات من تأثيرها السلبي على البعض منا حتى لو كان مسكوناً بطاقة إيجابية هائلة .
***
كان ميدان الجامع كعادته قِبَل كورونا ورغم كورونا يغص بالمارة المتزاحمين حد تلامس الأكتاف، هذا الميدان يفرض قوانينه وعلى الجميع توفيق أوضاعهم بما يتلاءم مع تلك القوانين. أمام الجمعية الاستهلاكية يفترش باعة الخضر والفاكهة الأرض ولديهم بصاصون في كل اتجاه ما أن يأخذوا خبراً بأن عربيات البلدية ستمر حتى يخفوا بضاعتهم بسرعة البرق في مناور العمارات وداخل المحلات التجارية، وهذه عملية فيها تذاكي وانتباه واسترزاق وفيها فساد كبير. عند أحد باعة الليمون انحنت سيدة في منتصف الأربعينيات تُنقّي ما طاب لها من ليمون وتفرغ كل حين حصيلتها في كيس البلاستيك الذي تمسك به في يدها، كل النساء يفعلن هذا. يا أبلة شدّي البلوزة لتحت.. البااااااادي باين، قالها البائع لزبونته هكذا ممطوطة وممجوجة ومحرجة، وكان صوته عاليًا بما يكفي. ارتبكت السيدة ارتباكاً شديداً وبحركة لاشعورية انصاعت لأمر البائع وشدّت البلوزة إلى أسفل حتى تخفي البااااااادي عن الأنظار. هل يمكن التعامل مع هكذا موقف باعتباره موقفاً صغيراً يليق به الإهمال، أم باعتباره موقفاً خطيراً يعكس الاستباحة الشائعة لكل ما هو شخصي وخاص ومتعلق بالذات- خصوصاً ذات المرأة الشرقية؟ المسألة فيها نظر والموقف مربك، فهناك من سيطبق حكمة الصباح إياها ويشتري راحته ولا يهتم بما حدث ويجد لنفسه ألف مبرر من نوع: الأمر بسيط فعلاً ولا يستحق الاهتمام، أو إن تدخله يجعله مثل البائع الذي تعرض لما لا يعنيه وتدخل في لبس المرأة، أو إنه ليس واردًا القيام بدور أبو العلا البشري الذي لا يرضى بالحال المايل في مسلسل أسامة أنور عكاشة، وطبعاً إن الحق على المرأة التي سمحت للباااااااادي أن يظهر ويبان. وهناك على الجانب الآخر من سيشتبك مع الموقف وينتصر للمرأة المسكينة في مواجهة البائع، وستكون له هو الآخر مبرراته من قبيل: إن الشارع أصبح مكاناً طارداً للمرأة، أو إن البائع الفظ تجاوز حده وتعدى على حق من الحقوق الشخصية للمرأة، أو إن زي المرأة صار هو عنوان الحقيقة- وذلك على وزن الحكم هو عنوان الحقيقة في لغة القانون، ولا يخلو الأمر من شهامة ابن أو بنت البلد نجدةً لامرأة في ورطة. لم أستطع تجاهل الموقف .
***
يا صديقاتي العزيزات نحن نحاول ألا نهتم بما يجري حولنا قدر طاقتنا ولا ندعه يؤثر سلباً علينا، نحن ننكفئ على دوائرنا الصغيرة ومعارفنا القدامى وذكرياتنا الطيبة حتى لنوشك أن نعيش في عوالم متوازية ومنفصلة عن بعضها البعض وعن عالم الواقع، نحن نختفي بالساعات داخل الكتب فسطورها رحيمة وفيها أشخاص قد يشبهوننا، لكن من يَضمن لنا أيتها الصديقات ألا يتقاطع عالمنا المشترك الصغير مع العالم الخارجي وفيه الآلاف من أمثال بائع الليمون ومن يَضمن لنا ثباتنا الانفعالي حين يتصادم العالَمان؟.. عن نفسي إن أنا أمنت العيش إلى الأبد في فقاعتي فسوف أتعهد لكن بألا أهتم إلا بكل ما هو جيد، لكن ألم يكن ألطف من البداية أن أبحث عن باقة ورد أهديكن إياها في هذا الصباح؟