بقلم - نيفين مسعد
نحن الآن فى مطار چنيف، كل شيء هنا يلمع من أول أرضية المطار وانتهاء بعيون الناس.. لمعة تجد فيها بعض ما يذكرك بكريستال شوارڤسكى الأصلى، لا..لا يصح أن تنسب هذا الجمال السويسرى الأخّاذ إلى سواه أو تقارنه بغيره، فهذا البريق السويسرى هو صناعة محلية مائة فى المائة، تسكع قليلا فى الشوارع وتأمل الساعات الراقصة خلف الفاترينات الزجاجية وستجد نفسك على استعداد تام كى تفتح ذراعيك على آخرهما وتراقص دفقة الأمطار السخية حتى تتعب أنت أو تصفو السماء. اعبُر الجسر الممتد فوق بحيرة لوزان وسافر من ضفة من ضفاف البهجة إلى ضفة أخرى حيث الرستورانات والفنادق ومحلات الورد الليليام والشكولاتة.. وآه من شيكولاته سويسرا ووردها. سافِر بين جبال الألب وأطل من التلفريك الواصل/الفاصل بين القمم وانظر إلى الوديان والوهاد تتناثر فيها البيوت الصغيرة كما لو كانت جزءا من مدينة اللعب. التقِط ما شئت من صور السيلفى فالجمال يسكن خلفية كل الصور، وأن تكون سويسرا سياسيا على الحياد فهذا لا يعنى أبدا أن تكون مشاعرك أنت محايدة تجاهها فالجمال لا يعرف الحياد.
***
مزدحم هو مطار چنيف.. مزدحم بشدة وتلك هى عادته، طوابير المغادرين الطويلة تتثنى من ممر لآخر كأنها تعطى أصحابها فرصة أخيرة ليفكروا فى الأمر ويعودوا أدراجهم إلى حضن المدينة الجميلة. على مرمى البصر طابور من نحو أربعين تلميذا من تلاميذ إحدى المدارس الخاصة فى طريقهم للمغادرة للقاهرة، تقاطيعهم مصرية هذا أكيد أما لسانهم فلا، خليط من البنات والأولاد فى حدود سن العاشرة وإن كان بينهم من هم أقل عمرا وأدق حجما. بلكنة إنجليزية واضحة تطلب معلمتهم أن يقف التلاميذ أصحاب الجوازات المصرية إلى اليمين وأن يصطف أصحاب الجنسيات الأوروبية إلى اليسار فيذهب عدد لا بأس به منهم صوب اليسار. يتصايح الصغار ويتدافعون لكن فى انضباط، وحين يُطلَق سراحهم بعد آخر نقاط التفتيش ينتشرون فى أرجاء المطار .
***
سمعتُ كما سمع غيرى عن مدارس فى مصر ذات مصروفات خيالية ترسل تلاميذها للتزلج على الجليد فى أوروبا، والأرجح أن هؤلاء الصغار تلاميذ فى واحدة من تلك المدارس. إلى أين ذهبتم فى سويسرا ؟ تخيرتُ تجمعا من الأطفال ووجهتُ إليهم هذا السؤال فأجابنى أحدهم بأدب: قضينا ثلاثة أيام فى چنيف وثلاثة أيام فى زيرمات، وزيرمات هذه هى واحدة من أشهر المنتجعات السويسرية التى تشرف عليها سلاسل جبال الألب، والمنطقة التى تقع فيها زيرمات يقام فيها العديد من مهرجانات الموسيقى الفولكلورية والأطعمة التقليدية وفيها تُنَظَم مسابقات الجولف وكرة المضرب، لكن شهرتها الأهم هى فى مسابقات التزلج على الجليد. عاودتُ السؤال: هل هذه هى المرة الأولى التى يسافر فيها فصلكم خارج مصر؟ رد الصغير نفسه: لا سبق أن نظَمَت لنا المدرسة معسكرا فى إمارة رأس الخيمة، وأضاف زميله أنهم قبل إقامتهم فى المعسكر قضوا يومين فى مدينة دبى. أشعَلت إجابة الطفلين رأسى بعشرات الأسئلة عن مصر التى لا يعرفها الكثيرون، عن تَفَتُّح وعى أبناء العاشرة على معالم زيرمات قبل آثار الأقصر وأسوان وعلى رمال رأس الخيمة لا على رمال رأس الحكمة، هؤلاء الأطفال يُنشَأون من لحظة ميلادهم وهم يعرفون أن مستقبلهم خارج مصر وليس داخلها، وكل شيء يؤكد لهم ذلك من أول جواز السفر الأوروبى وحتى رحلة التزلج على الجليد، هنا يتحول الوطن إلى ما يُشبه الحضّانة التى يودَع فيها المواليد المبتسرون فى انتظار أن يكتمل نموهم، لا فارق بين حضّانة المستشفى وحضّانة الوطن إلا فى أن الثانية أطول وأزحم، الهواء المعقم نفسه والصندوق الزجاجى هو ذاته.
***
مسلحون بسندويتشات الجبن الجرويير والكرواسون المحشو بالنوتيلا صعد التلاميذ سلم الطائرة وقد أنفقوا آخر ما تبقى معهم من فرنكات. امتلأت الصفوف الخلفية بالكامل بركاب غطست رئوسهم فى المقاعد فلا تكاد تتبين منهم أحدا، وحدها تظهر رئوس المدرسين. تتناهى إلى الأسماع مكالمات ما قبل الإقلاع مع الأهل فإن حانت منك التفاتة إلى مؤخرة الطائرة فستجد نفسك فجأة مزروعا فى غابة من الآيفون ٨ على الأرجح لكن ربما صادفت آيفون 7 أو 6.
***
ها نحن إذن نودع مدينة جنيف.. نودع البحيرة الخلاّبة وأسراب الحمام الطائر من فوقها، نودع الكرسى ذى الساق المكسورة كما هى حقوق الإنسان فى عالمنا، نودع المدينة القديمة ولوحاتها الجدارية تمشى بينها فيداخلك شعور بأنك تتجول فى متحف مفتوح، نودع نافورتها السامقة وساعة زهورها ونودع فائض سلامها الذى تجود به على مفاوضات الخصوم. كنت أتحسب كثيرا لضوضاء التلاميذ وضجيجهم فى رحلة العودة لكن فى الحقيقة لم تكن هناك ضوضاء ولا كان هناك ضجيج، فقط كانت هناك ذكريات سويسرية ومعها أربعون علامة استفهام.
***
عندما لامَسَت عجلات الطائرة مطار القاهرة بسلام ضجت الصفوف الأخيرة بالتصفيق فانتبهت، أما ما لم أحسب له حسابا قط فكان غناء التلاميذ الجماعى وبصوت مرتفع تلك الأغنية المنتشرة العجيبة: العب يالا ارقص يالا !!! نسى الصغار جليد الألب وسحر جنيف، وتخلوا عن إنجليزيتهم إلى العامية، وطارت آلاف الدولارات التى دفعها الأهل فى الرحلة المدرسية. غلبتهم الحماسة أكثر فتراقصوا فى مقاعدهم وراحوا يخبطون جباههم بظهور أيديهم.. ممممم.. ماذا قلتُ أنا فى مقدمة انطباعتى هذه ؟ قلتُ كلاما كبيرا عن تنشئة الأطفال على أن مستقبلهم فى الخارج لا فى الداخل وعن حضّانة المستشفى وحضّانة الوطن... ضحكتُ من قلبى حتى دمعت عيناى.. ضحكتُ وأنا أرى جواز السفر الأوروبى الثمين ينهزم فى لمح البصر أمام أغنية للثنائى أوكا وأورتيجا!
نقلا عن الشروق القاهرية