بقلم - نيفين مسعد
يتردد هذه الأيام اسم القاضية اللبنانية چوسلين متّي. فى كل أنحاء لبنان ومنه إلى مختلف أنحاء الدول العربية، وكانت متّى قد حكمت على ثلاثة من الشبان المسلمين - الذين وُجِّه لهم اتهام بالإساءة للسيدة مريم العذراء - بحفظ سورة آل عمران التى تكرم السيدة مريم أرفع تكريم «وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهركِ واصطفاكِ على نساء العالمين .»وراء هذا الحكم المُفحِم عقل راجح يرُد المتهمين إلى صحيح الدين ويقضى بأن يعودوا إلى نصوصه المنزلة، وهذا بعض ما تفعله النساء حين يعتلين منصة القضاء. بسرعة البرق تناقلت وسائل التواصل الاجتماعى نبأ الحكم الفريد من نوعه، وحظيت القاضية المحترمة بثناء عابر لكل الطوائف اللبنانية واختصها رئيس الوزراء الحالى والسابق بالمديح، فعلق سعد الحريرى على الحكم قائلا إنه «قمة فى العدالة وتعليم المفاهيم المشتركة»، ووصف نجيب الميقاتى الحكم بأنه «مثال يُحتذى فى الأحكام الإصلاحية المبنية على التسامح»، وغير ذلك كثير.
فى مصر مازالت المرأة تناضل من أجل مساواتها بالرجل فى تولى مختلف المناصب القضائية ، نضال يوشك أن يتم عامه السبعين منذ أن تقدمت عائشة راتب عام 1949 للعمل كمندوب مساعد فى مجلس الدولة وحتى يومنا هذا . النضال الأول لمن صارت لاحقا الأستاذة الجامعية المرموقة والسفيرة الناجحة والوزيرة المخضرمة الدكتورة عائشة راتب هو نضال جدير بكل احترام ، فما تركت هذه السيدة بابا إلا وطرقته دفاعا عن حقها فى المواطنة الكاملة ، وأخيرا ظفرت بنصف انتصار عندما أصدر المستشار عبد الرزاق السنهورى حكمه الشهير عام 1953 الذى لم يجد فيه دستوريا أوقانونيا أوشرعيا ما يمنع المرأة من تولى منصب القضاء، لكنه رأى أن اعتبارات الملاءمة تحول دون ذلك . مسألة المواءمة هى مسألة تتعلق بالظروف الاجتماعية وكل المجتمعات تتغير فهذه سنة من سنن الكون .
واصلت حقوقيات كثيرات نضال الدكتورة عائشة راتب وحركن الدعاوى الواحدة تلو الأخرى وصولا إلى الدعوى التى أقامتها الحقوقية أمنية جاد الله للعمل بالقضاء الإداري، وعلى امتداد الطريق تحققت ثمة إنجازات . ففي2003 وقع اختراق بالغ الأهمية بتعيين المستشارة تهانى الجبالى فى قمة الهرم القضائى : المحكمة الدستورية العليا ، ثم جاء تطور جديد عامى 2007 و2008 بنقل عدد من النساء من النيابة الإدارية إلى العمل بالقضاء العادى ، وهكذا عملت النساء بالقضاء المدنى والجنائى والاقتصادى والأسرى ، وظل مجلس الدولة القلعة الحصينة التى تعذر على المرأة اختراقها . ثم كانت النقلة النوعية مع المادة 11 فى دستور 2014 التى حققت للمرأة ما لم يتحقق لها من قبل عندما نصت على أن تكفل الدولة للمرأة حقها فى « التعيين فى الجهات القضائية ( والإشارة هنا يفهم مقصود به مجلس الدولة فى الأساس ) والهيئات القضائية «. وراء هذا الإنجاز الكبير كان هناك جهد دؤوب قادته كتيبة النساء فى لجنة الخمسين : ميرفت التلاوى و منى ذو الفقار و هدى الصدة وعبلة عبد اللطيف و عزة العشماوى .
فى ظل تلك الخلفية ناقشت ندوة عُقِدَت بإحدى الفضائيات قضية استعصاء مجلس الدولة على الحقوقيات المصريات ، وفيها قيل كلام غريب تعامل مع المرأة المصرية باعتبارها كائنا شاذا عن كل نساء الأرض اللائى عملن بالقضاء من أول المغرب فى عام 1961 وانتهاء بموريتانيا فى عام 2014 مرورا بنساء لبنان والسودان واليمن وفلسطين وليبيا والأردن وسلطنة عمان والإمارات . لن أتوقف عند هذه المساحة التى يحاول البعض جرنا إليها بالحديث عن الظروف الخاصة للمرأة ببساطة لأن إعمال منطق الظروف الخاصة سيفضى فى الأخير إلى أن تلزم المرأة بيتها . لكنى سوف أركز على ثلاث نقاط وردت فى النقاش وأراها جد خطيرة ، النقطة الأولى تتعلق بالتعامل بانتقائية مع مواد الدستور إذ قال أحد الضيوف « إيه اللى فى الدستور دلوقتى ممكن تقول تم العمل بيه وتم تفعيله .. إشمعنى المادة 11عاوزين نفعلها «. منطق «إشمعنى» معناه أن هناك مواد دستورية للتطبيق وأخرى للتجميل ، وهذا يصيب العدالة فى مقتل لأن العدالة بطبيعتها مجردة لا تمايز بين قاعدة قانونية و أخرى . النقطة الثانية هى القدح فى كفاءة القاضية العربية بالقول إنها « فشلت « ! ، هكذا فى بساطة شديدة نحكم على كل من تبوأت منصب القضاء فى الدول العربية بالفشل ، المسألة إذن ليست مسألة القضاء الإدارى لكنها مسألة القضاء نفسه . هناك نماذج قمة فى الكفاءة والمهنية لقاضيات عربيّات منهن القاضية چوسلين متّى التى بدأ بها المقال ، ومنهن القاضية كلثوم كنّو التى نافست على منصب رئيس الدولة التونسية فى انتخابات 2014،
والأمثلة أكثر من أن تُحصى وكانت لمجلس النواب ومجلس حقوق الإنسان المصريين تجربة ممتازة فى الاحتكاك بوفود النساء العربيات المشتغلات بسلك القضاء.
أما النقطة الثالثة والأخيرة فهى التى تتعلق بالتعامل مع مفردات مهنة القضاء تعاملا غير لائق بالمرة ينبع من التعامل مع القاضية كمحض أنثى فإذا بمداولتها مع زملائها تتحول إلى «وشوشة» ! . قال أحد الضيوف فى انتقاد التداول بين هيئة القضاة على المنصة وفى الجلسة العامة وعلى رءوس الأشهاد ما يلى «قد يكون العضو اليمين أو رئيس الدايرة ملاصقا للعضو اليمين أو الشمال علشان يوشوشه»، وهذا الكلام بصوت خفيض فى رأيه لا يجوز . هنا ننتقل بالحديث من ساحة القضاء إلى ساحات أخرى بعيدة عنها كل البعد . هذا علاوة على أن المداولة ليست مقصورة على القضاة لكنها تتحقق على منصات أخرى عديدة منها مثلا منصة الحكم على رسائل الماچستير والدكتوراه ، فهل نقصى الأستاذات الجامعيات أيضا من اللجان العلمية حتى نمنع «الوشوشة « ؟ هذا تجاوز يفوق كل الحدود .
مهما حدث لن ترفع المرأة المصرية الراية البيضاء أبدا لأنها مواطنة لها مثل ما للمواطن من حقوق وعليها ما عليه من واجبات ، و سوف تحتمى بدستورها الذى صوتت عليه بنعم قبل أربع سنوات ، وستواصل نضالها بكل إخلاص لفتح جميع الأبواب المغلقة فى وجهها ، وستقف بكل ما أوتيت من قوة وإصرار فى وجه منطق «إشمعنى المادة 11»
نقلا عن الاهرام القاهرية