توقيت القاهرة المحلي 09:38:29 آخر تحديث
  مصر اليوم -

موسم الجوافة

  مصر اليوم -

موسم الجوافة

بقلم - نيفين مسعد

غمر نور الصباح مدخل الشقة معلنا بداية يوم جديد، تكسرت الأشعة الذهبية على الأريكة المزركشة والفوتيات الضخمة فى دلال وكسل، امتزج دفء النهار مع بقايا برودة الليل فصنعا جوا لطيفا نصف بارد نصف حار، ضربت الحمامة زجاج النافذة بجناحها وهَدَلَت تريد أن تقول نحن هنا. وفى محيط هذا المشهد النهارى البديع كانت تتحرك صاحبتنا، مدت يدها لتطفئ نور الأباچورة التى تحدد معالم الطريق أمام السائرين ليلا، ففى نور ربنا ما يكفى ويزيد. ارتطمت بقفص الجوافة مازال يقبع مكانه منذ الأمس بجوار باب الشقة ولم تخالجها تجاهه أى مشاعر.. لم يحن الوقت بعد لتنقله إلى محطته الثانية فى المطبخ ولا صَفَت نفسها بعد تجاه زوجها لتقضم إحدى ثمار الجوافة التى أهداها لها.. لم يعتذر لها بعد كما ينبغى.
***

خمسة عشر عاما من العشرة بينها وبين ياسين وكل خلافاتهما تمر بنفس السيناريو، تعاتبه فيستخف، تثور فيغضب، تحزم حقيبتها فيُوَسِط الأولاد، تنتبذ البهو الفسيح فيحمل لها قفصا من الجوافة، تترك القفص حيث هو ثم بسياسة الخطوة خطوة تنقله إلى المطبخ، وبعد ذلك تفرغه فى كيس من البلاستيك وتغلقه.. تحسن غلقه جيدا جدا قبل أن تضعه فى ثلاجتها فليس أكثر نفاذية من رائحة الجوافة، وأخيرا تروح تتسلى على محتويات الكيس ثمرة ثمرة. اليوم مازال قفص الجوافة فى المحطة الأولى من رحلته، نعم يغريها هذا صحيح، لكنها تقاوم، تمر به كلما غدت أو راحت فتتحاشى النظر إليه وتدندن بصوت خفيض أغنية الست: وعزة نفسى مانعانى وعزة نفسى مانعانى !
***

قبل أن تختلط المواسم وتصبح كل الخضر والفواكه متاحة على مدار العام كان ياسين يواجه مشكلة عويصة فى فصل الشتاء فليس فى الشتاء جوافة، وهذا يطيل عمر الخصام. عندما كانا يتناجيان كان يسألها ياسين: لماذا الجوافة بالذات؟ فكانت ترد: القلب وما يعشق.. ثم تضيف أن الجوافة فاكهة الغلابة وهذا يضمن ألا أُحرَم منها أبدا. مرت الأيام ولم تعد الجوافة فاكهة الغلابة ضربها جنون الأسعار كما ضرب كل شيء ولا حيلة لها فى ذلك. حكايتها مع الجوافة صارت مثار تندر الأولاد الأشقياء، فحين كان يلف ياسين الأسواق بحثا عن قفص جوافة دون جدوى كان يخاطبها ابنها الأكبر ممازحا: مشّيهَا يوسفندى المرة دى يا ماما ! فكانت تشيح بوجهها وترد: بل قل لأبيك أن يقصر خلافاتنا على فصل الصيف !
***

والحق أن التوقيت الموسمى لخلافاتها مع ياسين كان أمرا مستحيلا لسبب بسيط هو أن حماتها لم تكن تكف عن التدخل فى شئونها فى كل الأوقات وفى جميع المواسم. خلافهما الأخير مثلا تفجر بعد أن انتقدت حماتها نتائج امتحانات نصف العام لأولادها، وهى كانت تعتبر أن كل ما يخص أولادها هو مجالها الخاص جدا الذى لا تسمح لأحد بالاقتراب منه. التقط المحيطون بها هذه الرسالة منذ سنوات زواجها الأولى فامتنعوا عن التدخل، أما حماتها فلا.
***

لقد وقفت صاحبتنا حياتها على أولادها فلم تعمل رغم ما أتيح لها من فرص وبعضها كان يُغرى، كان قرارها ذاتيا وبعد فترة قصيرة من الصراع الداخلى مع نفسها حسمت أمرها وقرّت فى بيتها. أصمّت أذنيها عن نصائح ثمينة من نوع أن العمل يقوى المرأة أو أن الاستقلال المالى يضمن مستقبلها أو أنها ستشعر بالفراغ حين يكبر الأولاد، تخلت عن فضاءات الخارج بزحامه وأنواره وعلاقاته وتجاربه واكتفت بهذا الممر داخل شقتها، ممر تفتح عليه غرفتان يسكن أولاهما اثنان من الذكور وتسكن ثانيتهما فتاة واحدة، صار هذا الممر وهذا الثلاثى هو كل عالمها، وهى مستعدة للدفاع عنه إلى المدى الأقصى.
***

قبل تعليق حماتها على نتائج الامتحانات كانت هناك تعليقات كثيرة على رياضات الأولاد وملابسهم وتغذيتهم ونظافتهم ورحلاتهم وأصدقائهم... إلخ. وكل تعليق كان يتلوه وعد من ياسين بألا يتكرر الأمر ثانية لكنه كان يتكرر. وعندما كانت تخلو صاحبتنا إلى نفسها كان يحدثها شيطانها بأنها ساذجة يصالحها زوجها بقفص من الجوافة لكنه لا يعالج أبدا جوهر الخلاف، هذه معادلة غير عادلة: تُستباح علاقتها بأولادها دون حق مقابل بعض من ثمار الفاكهة. وفى مواجهة هذا الهجوم كانت تضطر أحيانا أن تدافع عن نفسها، تتجمع حبات اللؤلؤ فى مقلتيها وتقول إن الأمر فى الواقع لا علاقة له بالجوافة، وإن الجوافة هى مجرد ذريعة تتلكأ بها حتى تستمر الحياة وحتى يظل الحبل ممدودا بين غرفتى الأولاد وغرفتها مع ياسين، لكنها غير راضية كل الرضا عن حياتها. تدافع أكثر عن كرامتها قائلة إنها لا تستجيب من فورها لمحاولات الصلح بالجوافة، بل هى تتريث وتؤجل وتنتظر و..... تترك الفرصة لثمار الجوافة كى تنضج ويصبح مذاقها ألذ وأشهى!
***

سال لعابها على سيرة الجوافة الشهية فقررت أن تختزل لها رحلتها الروتينية من باب الشقة إلى الثلاجة ولو على سبيل الاستثناء، حملت القفص بين ذراعيها فى حب ووضعته فى المطبخ كما تفعل دائما، وقبل أن تتخذ ثماره طريقها إلى الثلاجة كانت قد كافأت نفسها بواحدة منها، التقطت ثمرة لامعة كاملة الاستدارة راقت لها وقضمتها بتلذذ.. توغلت فيها أكثر فأكثر، وفى ثوان قليلة امتلأ فم صاحبتنا بعشرات من بذور الجوافة!

 نقلًا عن الشروق القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

موسم الجوافة موسم الجوافة



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon