توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خيال على الهامش

  مصر اليوم -

خيال على الهامش

بقلم : نيفين مسعد

في داخل مخيم لإيواء اللاجئين انتحى جانبا طفلان دون السادسة، أحدهما تشي ملامحه بأن جذوره أوروبية، بشرته بيضاء يتناثر فوقها نمش كثير بلون حبوب القهوة.. عيناه ملونتان بخضرة العشب.. وشعره الأشعث حمرته صارخة كأنها نار. والآخر ملامحه قوقازية، بشرته تميل للاصفرار.. عيناه مشدودتان كأنهما سهمان على وشك الانطلاق.. وشعره أسود كما الليل. الطفلان هما ثمرة لعلاقة عابرة بين رجل وامرأة، فعلى هذه الأرض تحاربت كل الأجناس ومورست كل أشكال النخاسة صراحةً أو تحت مسمى الزواج. هما لا يدريان بالضبط ما شدّ أحدهما للآخر، كيمياء العلاقات البشرية سر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولعلهما حتى أخوان.. أخوان؟؟ نعم ولم لا، فلربما تزوج أبوهما مثنى وثلاث ورباع وقطف من كل بستان زهرة. المحاربون على شاكلة أهل الطفلين شدّوا الرحال من بلدانهم وجاءوا لينتقموا من طغاة بلدانهم في صورة طغاة آخرين أسهل قنصاً وأدنى هدفاً، وفيما هم يحاربون ويقتِلون ويُمثّلون فإنهم لا ينسون نصيبهم من متع الحياة الدنيا أبدا. ودّ الطفلان لو يبث أحدهما هواجسه للآخر لكن لغة الكلام تعطلت فلكلٍ لسان مختلف، عموما هذه العقبة هي الأهون فغداً يتقنان لغة البلد الذي نُصِب فيه المخيم أكان هذا المخيم تركياً أو عربياً أو أوروبياً، غداً يكون بوسعهما التفاهم. رغم قسوة الحياة المخلوطة بالغبار والإهانة والمجهول فإن حياة المخيم أحّب إليهما من سواها، وهما بالتأكيد أفضل حالا من أطفال آخرين معروفة بلدانهم لكن أبوابها موصدة أمامهم. أن لا تعرف أصلك ومن أين بلد جئت أو جاء ذووك خير ألف مرة من أن تعرف مصدرك وتشعر بالنكران، إحساسك بالغربة يكون أقل لأنك لا تشعر بالانتماء إلى أي مكان، الانتماء؟ ما أغرب وقع هذه الكلمة على آذان أطفال الحروب.
***
يُخرج الطفل القوقازي تمرة من جيب بنطلونه الجينز ويناولها لصديقه فيأخذها ممتناً، لا يحتاج التعبير عن مشاعر الامتنان أكثر من هزة رأس، هز الصديق رأسه شاكرا وابتسم على قدر ما طاوعته شفتاه على الابتسام، وإنها كانت عنيدة. في ذاكرة كل منهما ذكرى أيام لا تُنسى، خيضت أمامهما حرب حقيقية لا بل حروب أُرغِما على معايشة وقائعها الكريهة إرغاما.. سالت على مرأى منهما دماء بعضها يخصهما والبعض الآخر لا، فمتى يتوصلان إلى لغة يتبادلان فيها الذكريات المؤلمة؟ سيحدث هذا التفاهم يوما.. سيحدث حتما. فوق المخيم تمر طائرة بسرعة البرق فيهرولان بدون تنسيق مسبق ومعهما كثير من الأطفال أكبر منهما وأصغر كي لا تفوتهم اللقطة العادية/المثيرة . لا يحفل المسؤولون بتحذير الصغار من أن المخيم قد يكون هو نفسه هدفا للطائرة، لم تعد المخيمات محصّنة من القصف ولا عاد الأطفال في مأمن، عموما هم في غنى عن التوجيه فخبرتهم بمصادر الخطر، باسم الله ما شاء الله، تفوق عمر أكبرهم سنا بكثير، يعرفون متى يختبئون ومتى يظهرون، متى ينهضون ومتى ينبطحون، ولا بأس إن سقط منهم واحد أو آحاد فلكل حرب ضرائبها. صارت قلوبهم جميعا كالحجر أو أشّد قسوة .
***
هذا الجيل قادم إلينا إذن بمرارته وقساوته وسخطه على الكل، جيل لا يتعلق بأحد ولا يرتبط بأحد لأن أحدا لم يتعلق به ولا ارتبط. يتسرب إلى المخيم خبر الطفل اللاجئ الذي أُخرِج جثمانه من القبر في دولة اللجوء لأن رفات أمثاله لا يصح أن تختلط برفات أبناء الوطن، يا الله! حتى في باطن الأرض يوجد تمييز بين الناس فتتفوق رفات على رفات ويتواصل اللجوء من قاع إلى قاع، هل هذا معقول؟ ودّ الطفلان لو ردّا على هذا السؤال فوقفت اللغة حاجزا بينهما للمرة الكم لا يدريان، لكن المرارة مثلها في ذلك مثل الامتنان لا تحتاج إلى كلمات تعبر عنها. سكب الخبر اللعين مرارة العلقم في جوفيهما دفعة واحدة فتقززا كما لو كانا توأما ملتصقا بجهاز هضمي واحد. شعورهما الدفين بأنهما أخوان يكبر أكثر فأكثر، لكن بافتراض صحة هذا الإحساس وأنهما بالفعل أخوان ففيم يفيد ذلك؟ لا شيء.. لا شيء بالمرة.
***
دفع الطفل القوقازي رأسه إلي الوراء وراح يستجمع ملامح أمه، يبتسم.. أخيرا يبتسم، لقد كان هو الوحيد المسموح له بأن يرى وجهها وشعرها ومفاتنها، أما العالم الخارجي فكانت تصده عنها طبقات سوداء من القماش فوق طبقات، وعندما كان يطول بهما الوجود وسط الأغراب ويحّن إلى ملامحها المخفية كان يقترب منها ويقترب، يرفع القماش الأسود عن وجهها ويدخل ليراها، أحيانا كانت تزجره لكن غضبها عليه لم يكن يدوم. مممم.. هو يعلم أن والده قُتِل في حرب الكل ضد الكل لكن أين عساها ذهبت أمه؟ قُتِلَت بدورها أو أصيبت أو هربت أو تزوجت، ودّ لو أنها كانت معه كما أن أطفالا آخرين بالمخيم تعيش معهم أمهاتهم، كان يظن أنه رجل لا يبكي لكن عندما سالت دموعه تبيّن أن الرجل يبكي..
***
ترى ماذا سيصنع بِنَا هؤلاء الأطفال وماذا سنصنع بهم؟ ذرات من الغضب والانكسار واللاانتماء والعنف تتجمع وتكبر وتصنع منهم قنابل موقوتة في مجتمعاتنا، أما المجتمعات التي جاء منها أحد الأبوين أو كلاهما فإنها لا تريدهم أبدا، إن أطفال الحروب هم البضائع الوحيدة المجانية فهي تُصّدر بلا مقابل. انتبه الطفل القوقازي على زميله يلكزه ويشير له أن قم فقام، كان قمر ١٤ قد أرسل نوره إلى داخل المخيم وشق طريقه دون استئذان، أصبح المكان أليفا ولطيفا ومؤنسا كما يحدث في مثل هذا التوقيت من الشهر، وأصبح فيه ما يُغري بالسهر واللعب والحياة. سارا على ضوء القمر بحذر كما لو كانا يمشيان على الصراط، اصطدم الطفل ذو الملامح الأوروبية بأجساد النيام فسقط وسقط معه صاحبه !

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خيال على الهامش خيال على الهامش



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon