بقلم: نيفين مسعد
مصطلح خارج الصندوق هو أحد المصطلحات المنتشرة جدا والمظلومة جدا، في كل مرة نجد أن الواقع اختلف وما عادت تجدي معه الأفكار القديمة نطالب بالبحث عن أفكار جديدة من خارج الصندوق. يتفاعل البعض مع هذا الاقتراح ويتطوع بتقديم أفكار يقول عنها جديدة ثم لا نلبث أن نجدها تكرارا للموجود أو تنويعا عليه حتى صرنا بحاجة لفتح الصندوق العتيد وجرد محتوياته فكرةً فكرة ثم التخلص منها تباعا لنعيد ملء الصندوق بأفكار جديدة.. جديدة فعلا. ولعل حكاية هذا الأسبوع تصلح لأن تملأ بعض صناديقنا القديمة بأشياء جديدة.
***
دلَفَت المهندسة الشابة إلى حجرتها في فندق بإحدى العواصم الأوروبية في مهمة عمل ليومين اثنين، غرفة ينطبق عليها تعبير العالِم الكبير جمال حمدان "عبقرية المكان"، مع التسليم طبعا بأن عبقرية حمدان كان لها مضمون مختلف. لفرط ضيق الغرفة خطَرَ لصاحبتنا أن كل شيء وُضِعَ في مكانه أولاً ثم تم بناء الغرفة من حوله، يستحيل أن يدخل الحمّال ومعه ألواح الخشب أو لوازم الحمام، عليه أن يختار إما يدخل هو وإما تدخل تلك الأشياء. وبالنسبة لصاحبتنا نفسها فلقد أصابها ارتباك عظيم عندما شرعت في الدخول إلى غرفتها فوجدت نفسها أمام هذا الاختيار العجيب، إما تدخل هي وإما تدخل حقيبتها فكان أن دفعت الباب بساق ممدودة وسرّبت من تحتها حقيبتها الصغيرة ثم دخلت من ورائها، وما أن صارت في وسط الغرفة حتى انخرطت في موجة من الضحك. هي طلبت من مسؤولي التنظيم غرفة معقولة ذات نجمتين أو ثلاث نجوم على الأكثر فهي تعرف أن أسعار السكن نار الله موقدة في العواصم الأوروبية وتعرف أيضا مشكلة المساحات وتقدّرها، لكن حجماً بهذا الشكل لم يصادفها من قبل، ترى أيكون أحد غافلها وخطف إحدى النجوم الثلاث؟ لم تعد من أهمية للسؤال، فهذا أمر واقع وعليها أن تتأقلم.
***
تجلس صاحبتنا الآن القرفصاء وأمامها تلڤزيون مثبّت في الحائط، عن يمين التلڤزيون وشماله توجد رسوم على نفس الحائط باللون الأبيض لأشياء لا رابط بينها، كتب وراديو ومنبه وثلاجة وأباچورة وآنية زهور وزجاجة مياه معدنية وبعض ثمار التفاح. بدا جهاز التلڤزيون الذي يتوسط هذا الخليط العجيب من الرسوم هو الشيء الحقيقي الوحيد في الغرفة أما سواه فلا يعدو أن يكون سرابا، أو بعبارة أخرى فإن ما عدا التلڤزيون أشياء ليست كالأشياء. كل ما هو مرسوم على الحائط لا وجود له على أرض الغرفة فلا ثلاجة ولا أباچورة ولا آنية ولا.. ولا... الموجود فقط فراش ومشجب وتليفون وتلڤزيون وحمام مممم... أيكون هذا هو التفكير خارج الصندوق؟ يدخل النزيل إلى الغرفة فيجد كل ما يحتاجه لكن... على الحائط.. لم تحرمه إدارة الفندق من شيء بل تعاملت معه بقدر من التدليل فليست كل الغرف توجد بها كتب لكن هنا توجد مجموعة كتب محترمة على الحائط ولا يحتاج النزيل إلا إلى أن يسلط نظره عليها فتتوالي السطور وتُقلب الصفحات فيما هو يستلقي على ظهره في استرخاء تام.
***
راقت لصاحبتنا هذه الطريقة اللطيفة في تعويضها عن كل ما ينقصها في الغرفة، وأمضت بعض الوقت في محاولة تسلية نفسها، نظرت إلى ثمار التفاح الحمراء الشهية على الحائط فأحست بمذاقها اللذيذ على طرف لسانها، قررت أن تبيت ليلتها خفيفة وليس أخف من عشاء التفاح ولا أصّح منه. في مثل هذا التوقيت من كل يوم اعتادت أن تستمع إلى الموسيقى الكلاسيك وتصعَد على درجات سُلّم الموسيقى من بهجة لبهجة حتى ترتوي، رمقَت الراديو أمامها فانسابت منه على الفور الموسيقى التي تحبها وكأنه يعرف ذوقها، ولو كان بالغرفة ثمة متسع لشبكَت ذراعا بذراع وراحت ترقص ڤالس الدانوب الأزرق كما فعلت فاتن حمامة مع عمر الشريف في فيلم "نهر الحب". لماذا لا يعمل الراديو الصغير الذي تحتفظ به في بيتها بمجرد أن تنظر إليه ويصّر من وقت لآخر على تبديل بطارياته؟ في أوروبا والدول المتقدمة يعمل الجهاز بنظرة. جرّبت استخدام كل شيء تقريبا من محتويات الحائط، تعبير "محتويات الحائط" تعبير غريب لكنه صحيح، الماء والزهور والثلاجة والأباچورة، ثم ما لبثت أن ردعت نفسها بعد حين واستكثرت الاستطراد في هذا المزاح الساذج وأمامها صباح الغد عمل كثير، نظرت إلى المنبه المرسوم على الحائط وضبطته على الساعة السادسة والنصف تماما ثم راحت في سبات عميق.
***
يحتاج التفكير خارج الصندوق إلى بعض الخيال، والمشكلة أننا عندما نشرع في إطلاق خيالنا سرعان ما نكّبله بقيود من صنعنا نحن أو من صنع الآخرين، وفي الأخير نجد أن ما هو خارج الصندوق لا يختلف كثيرا عما يوجد بداخله. وعودة لبطلة حكايتنا فلقد بلغ من إعجابها بفكرة "الحائط المفروش" في الغرفة إياها أن طبقّتها على بيتها، خصصَت في البيت ركنا للأحلام لا يراه أحد سواها وأثثَت حائطه بكل ما ينقصها من أجهزة ولوحات وملابس لا تقدر علي شرائها، ليس هذا فقط بل إنها حلّت عقدتها الأزلية مع القطط عندما رسمَت قطة شيرازي لطيفة على الحائط وراحت تلاعبها في وقت الفراغ، ثم إنها مارسَت رياضة الدراجات لأول مرة وقادتها على الحائط بمهارة ووجدتْها أسهل بكثير مما تصورَت واعترفت بأنها لم تكن محّقة حين هابتها في طفولتها. رسمَت أمواجا وسُحُبا فسافرت بحراً وبراً وتجولت وعادت دون حدود ولا تأشيرة. منذ قضت صاحبتنا ليلتين في العاصمة الأوروبية إياها لم تترك الفرشاة من يدها وكانت هجرَتها من زمن، راحت ترسم بمهارة.. ترسم وترسم، رسمَت ومحَت ورسمَت ومحَت ورسمَت ومحَت فكل رسم استنفد غرضه كان يخلي مكانه لرسم جديد وراحة بال جديدة، وهكذا.
إن الذين رسموا محتويات الغرفة علي الحائط في الفندق الأوروبي لم يدركوا أنهم بهذه الطريقة البسيطة ساعدوا صاحبتنا وربما غيرها على تحقيق جزء من أمانيهم والتخفف من بعض أحمالهم وجعلوهم يرون الأشياء بحب ويستنطقونها، لم يدركوا أنهم بعدة خطوط باللون الأبيض حوّلوا أمتارا قليلة إلى مساحة مترامية الحدود على مدد الشوف وربما أبعد، فهلا حكى لهم أحد عن أثر ما فعلوا ؟