توقيت القاهرة المحلي 08:45:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تونس مزيانة

  مصر اليوم -

تونس مزيانة

بقلم: نيفين مسعد

لم ينم شارع الحبيب بورقيبة في هذه الليلة بل لم تنم تونس كلها، فالليلة هي ليلة إعلان فوز قيس سعيد برئاسة البلاد. لا عليك إن لم تسمح ظروفك بالانتقال لتونس ومعايشة أجواء الاحتفال فأجواء الاحتفال تأتي إليك حيثما كنت وتصنع منك ومني ومن آخرين دائرة كبيرة حول هذا الشباب الذي يغني ويرقص، إنها عدوى الفرح التي لا تحتاج إلى مخالطة ولا ملامسة.. ما تحتاج إليه مجرد مسام مفتوحة وكلنا استعداد للانفتاح بل للتفتح .. التفتح كلمة تفيد الإزهار ببطء مدروس بعكس كلمة الانفتاح. في منتصف الحلقة يعتلي شاب كتف زميله ويمسك في يديه قفصاً خشبياً لا يحوي شيئا لكن يرفرف فوقه علم تونس الأحمر، القفص خال لأن العصفور طار من محبسه إلى الفضاء الواسع، أما لحظة طيرانه فمُختَلَف عليها، ستجد من يقول إن العصفور طار في اللحظة التي صاح فيها المحامي التونسي عبد الناصر العويني صيحته الشهيرة "بن علي هرب .. بن علي هرب". وستجد من يقول إن العصفور طار في اللحظة التي اصطحبت فيها ثلة من طلاب الجامعة أستاذهم قيس سعيد من مدرج الجامعة إلى قصر قرطاچ وحققوا حلمه وحلمهم.. يقول الكينج محمد منير في واحدة من أجمل أغانيه " لو بطّلنا نحلم نموت" . أما عبد الناصر العويني نفسه فماذا يقول ؟ ربما يقول إن العصفور مازال في القفص.. وإن بن علي هرب صحيح لكن العصفور نفسه لم يهرب.. حاول وفشل، سيقول ذلك عبد الناصر العويني لأنه تعرض للتنكيل والمطاردة بل والسرقة بعد ثورة الياسمين وكان يظن أن زمن التنمّر ولّى وفات، فإن أنت اندهشت من إجابته وسألته: أين هو هذا العصفور وقفصه خال؟ فإنه سوف يجيبك: هو موجود لكن هناك من لا يريد رؤيته ويفضل أن يعيش في وهم أن العصفور تحرر وطار.
***
أن تتعدد زوايا النظر لقصة العصفور والقفص، فيقول البعض إنه طار ويقول البعض الآخر بل مازال العصفور حبيسا، فإن هذا يعني أن أحدا لم يعد يحتكر البوح والحكي عن قصة الحرية في تونس، وأن شوارع تونس: العاصمة والبلد اتسعت للجميع واستوعبت اختلافاتهم وإشاعاتهم وحروب كلامهم، وأن تونس صارت مزيانة. شتان الفرق بين أول زيارة لي إلى تونس وبين هذا المشهد السيريالي الذي يطل عليّ/ علينا عبر الفضائيات التونسية على الهواء مباشرة من شارع الحبيب بورقيبة. أول مرة مشيت فيها لتونس، كما يقولون، كانت في منتصف التسعينيات لحضور ندوة عن المرأة، نحن نساء العالم العربي نقف وراء النساء التونسيات ونتركهن يتكلمن باسمنا.. ندعهن يرفعن السقف أعلى وأعلى، وكل ارتفاع للسقف فيه براح وحرية وفيه أيضا مغامرة. في زيارتي الأولى بدت تونس هادئة لكن باردة، والبرودة هنا تشير إلى الوضع العام لا إلى حالة الطقس رغم أننا كنّا في شهر نوڤمبر، برودة الطقس مقدور عليها أما برودة الحياة فلا تُذهبُها ألف مدفئة. رأيتُ السياح في سيدي بوسعيد وعند باب فرنسا ولاقينا معا التاريخ عند جامع الزيتونة، مررتُ بناس يقصدون أعمالهم من الصباح الباكر وحتى الزوال أفواجا تلو أفواج، تناهت لسمعي نميمة سياسية عن آل طرابلسي والجارة ليبيا وحركة النهضة وسعر اليورو في السوق السوداء وكانت السوق الوحيدة لتبديل العملة، لكني كنت أشعر بأن هناك شيئا ناقصا، شيء غير معلوم لكن غيابه محسوس، ولأجل هذا الشعور اخترعوا تعبير "عجلة الحياة تدور"، وهو تعبير فذ بالمناسبة لأن فيه معنى غياب الروح. في المرتين التاليتين اللتين زرت فيهما تونس لم يبارحني هذا الشعور.
***
أخذني المحتفلون في شارع الحبيب بورقيبة من ذكرياتي، ونفثوا فيّ هذه المرة نَفَساً عميقاً حرا كما هؤلاء الشباب أحرار، كان النَفَسُ مشبعا بأريج الياسمين، أما كيف تسلل إليّ أريج الياسمين قادما من الضفة الأخرى للمتوسط فهذا بدّه شرح. أتى الأريج محمولاً على أمواج البحر الوادعة وعالقا بأشرعة مراكب الصيد.. وكأن كل ما يأتي من أرض تونس الخضراء قد طاله الأريج. كان هذا البلد كمثل القوقعة لا يعرف عنه المشارقة شيئا ثم انقلب حاله. اللهجة التونسية التي لم تكن تألفها الأذن سرعان ما تَطَبّعنا معها ودخلت إلى لهجاتنا المحلية كلمات يعايشك وزوز وكيف كيف وبرشا و باهي وصافي ولاباس وثّم وما ثمّاش، وتدفقت القوة الناعمة التونسية بسلاسة وبمعدل أكبر عبر كل القنوات الممكنة، أصلا لم يكن أحد من قبل يبحث عن تردد القنوات التونسية فلم يكن فيها شيء يُري. الفنانون التوانسة صاروا جزءا مهما من الظاهرة الفنية العربية وبعد أن كان لدينا قبل ٢٠١٠ لطيفان اثنان هما لطفي بوشناق ولطيفة امتلأت الساحات الفنية بلطائف أخرى كثيرة في الطَرَب والدراما معا. المنتجات التونسية بدا مذاقها جديدا علينا وهو ليس بجديد من أول زيت الزيتون وحتى دجلة نور مرورا بالتونة والهريسة والكسكس. قلائد الفضة التونسية اتخذت طريقها إلى أعناق النساء مع تكرار التردد على السوق القديمة بأزقتها وزخارفها وزحامها. بعض هذه القلائد يحمل البصمة الأمازيغية بألوانها المفرحة التي تمزج الأصفر الفاقع بالأزرق الداكن، و الكل تعايش بسلام مع حلّي البهية عزة فهمي.. يسمّي التوانسة صناعتهم وعملهم "خدمة " ويطلقون عبارة "باش نخدموا أو نوّلي نخدموا أو العِباد يخدموا" على كل ما يفعلون فيتجاوزون الفرز العنصري للناس إلى سادة وخدم ويصبح الكل خادما للقمة العيش وساعيا وراء الرزق .. تونس مزيانة.
***
إن جديد تونس ليس هو اختيار قيس سعيد رئيسا للبلاد، فمن التوانسة من لم يختره أصلا ومنهم من اختاره لأنه لم يجد غيره، لكن جديد تونس هو في هذه الحيوية التي تغير وتبدّل وتقاوم وتتحدي فما عادت الحياة تحتاج إلي عجلة "تديرها".

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تونس مزيانة تونس مزيانة



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 15:58 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي
  مصر اليوم - نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon